علوُّ الهمة في سيرة الإمام النووي رحمه الله
من أعظم ما يثير الهمم، ويرفع العزائم قراءةُ سير الصالحين، وتتبُّع أخبار المبدعين، فقراءة سيرهم تُذكي في النفس العملَ، وتشعل في القلب جذوة الإبداع، وتبين صعوبة البدايات، وتُشعِر بحلاوة النهايات؛ فقد كان الإمام أبو حنيفة رحمة الله تعالى يقول: “قراءة سير الصالحين أحب إليَّ من كثير من الفقه”، وصدق؛ فإن الاطلاع على سيرهم وقراءة حياتهم تبيِّن لنا كثيرًا من تجارِبهم، وعصارة أفكارهم، وواقع حياتهم؛ فنتعلم الاقتداء بهم، أو التشبه ببعض خِصالهم:
فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم
إن التشبُّهَ بالكِرام فلاحُ
ومن هؤلاء المبدعين الذين شهِد لهم الجميع بحسن السيرة، وعلوِّ الهمة، وأجمع على علو منزلته الموافق والمخالف – الإمام النووي، الذي ترك للأمة تراثًا لا يندثر، وعلمًا لا ينمحي، على قصر حياته، وتقدم وفاته، فقد كانت حياته عامرة بالعلم والتعلم، مليئة بالعمل، فلا تراه إلا طالبًا للعلم، أو معلمًا، أو عابدًا في محراب، أو آمرًا بمعروف، أو ناهيًا عن منكر؛ حتى صدق عليه قول الله تعالى: ﴿ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الأنعام: 162].
ومن خلال ما سيأتي من مقتطفات من سيرته، سترى كيف كانت حياته أعجوبة من الأعاجيب، وكيف عاش عمره مع الله تعالى لا يحيد عنه أو يميل عن طريقه.
كان الأطفال يلعبون وهو منكبٌّ على الدرس:
كان الإمام النووي رحمه الله نجيبًا، بدت عليه علامات النبوغ والذكاء منذ صغره، فكان لا يشغله عن التعلم ما يشغل الصبيان في سِنِّهِ، فلم يكن يلعب معهم، أو يلهو بمثل لهوِهم، بل كان يراهم يلعبون فينكب على القراءة وحفظ القرآن، وكانوا يَرَونه فيجبرونه على اللعب معهم وهو يبكي؛ إذ لا يريد أن يلعب معهم وهو على هذا الحال في قريته، حتى جاء اليوم الذي مر بقريته الشيخ ياسين بن يوسف المراكشي، فرأى الصبيان يُكْرِهونه على اللعب، وهو يهرب منهم ويبكي لإكراههم، ويقرأ القرآن، فذهب إلى والده ونصحه أن يفرِّغه لطلب العلم، فاستجاب له، وكان أبوه صالحًا عفيفًا، محبًّا للعلم، فاستجاب لنصيحة ذلك الشيخ، وفي سنة 649هـ قدِم مع أبيه إلى دمشق؛ لاستكمال تحصيله العلمي في مدرسة دار الحديث، وسكن المدرسة الرَّواحية، وهي ملاصقة للمسجد الأموي، ثم ذهب للحج مع أبيه، فلما عاد إلى دمشق، فرَّغ نفسه، وانكب على علمائها ينهل منهم العلم والأدب.
لم ينم على الأرض سنتين:
كان الإمام النووي شغوفًا بطلب العلم، منكبًّا على التحصيل، يقضي يومه مع العلماء، يسمع منهم، ويأخذ العلم من ألسنتهم، فإذا جاء الليل انكبَّ على كتُبه ينظر فيها ماذا تعلم في يومه، فلا يكاد يجد الوقت للراحة أو النوم، وقد حدَّث عن نفسه رحمه الله تعالى بقوله: “وبقيت سنتين لم أضع جنبي على الأرض”.
سنتين لم يذُق طعم النوم، بل كان ينكب على الكتب، فإذا غالبه النوم، نام وهو جالس على كتبه، ثم لا يلبث أن يستيقظ ويستمر في طلب العلم.
وقد حكى عنه البدر بن جماعة أنه سأله رحمه الله تعالى عن نومه؛ فقال الإمام النووي رحمه الله تعالى: “إذا غلبني النوم، استندت إلى الكتب لحظة وأنتبه”.
فانظر إلى عظيم همته، وانكبابه على طلب العلم، فكيف يكون من هذا حاله، وهذا صبره وجَلَدُه في أخذ العلم؟ إن سيرة الإمام النووي أعجوبة لمن أراد أن يطلب العلم، فليس طلب العلم يأتي بالتقلب على الفُرُش الوثيرة، ولا راحة الجسم، وإنما بسهر الليالي، ومطالعة الكتب الغوالي، والأخذ من العلماء الأكابر.
وقال تلميذه البدر: “وكنت إذا أتيته أزوره يضع بعض الكتب على بعض؛ ليوسع لي مكانًا أجلس فيه”.
لم يأكل من فواكه دمشق:
وقد جمع الإمام النووي إلى عظيم همته في طلب العلم، الورعَ والزهد في الدنيا، فلا يأبه لها، أو يلتفت إليها، فلا يهمه ماذا يأكل أو ماذا يشرب.
ومما يُذكَر في ذلك أنه عاش في دمشق التي عُرفت بطيب فاكهتها، ولذيذ أكلها، فلا يكاد يسير فيها الراجل إلا والبساتين عن يمينه وشماله، وفيها ما لذ وطاب من أصناف الفواكه، ومع ذلك فقد كان الإمام النووي لا يطعم تلك الفواكه ولا يتلذذ بها، وقد سُئل عن ذلك رحمه الله تعالى فقال: “إن دمشق كثيرة الأوقاف”، فلا يطمئن أن يكون ما يأكله من هذه الأوقاف التي لا تحل له أن يأكل منها، فانظر إلى وَرَعِهِ وزهده بما يراه الناس من المسلَّمات في هذه الأرض التي تنبت أصنافًا من الفواكه، وتنتشر البساتين في أرجائها.
له في اليوم اثنا عشر مجلسًا للتعليم:
كانت سيرة الإمام النووي مليئة بطلب العلم، فلا تمر ساعة إلا وهو مشغول في طلب العلم؛ حيث أخذ منه كل وقته، واستولى على كل حياته، فلم يكن يلعب كما يلعب الصبيان، بل كان منكبًّا في نهاره في حضور حلقات العلم، وفي الليل في مدارسة ذلك العلم الذي كتبه في نهاره، فكان يومه في أوله مشغولًا بطلب العلم، وفي وسطه في تدريس ذلك العلم الذي تعلمه، وفي نهايته في التأليف والتصنيف.