قال القرطبي: “خص الله _تعالى_ الأشهر الحرم بالذكر ونهى عن الظلم فيها تشريفاً لها، وإن كان منهياً عنه في كل الزمان، كما قال _تعالى_: ” فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَج ِّ” (البقرة: من الآية197). وعلى هذا أكثر أهل التأويل، أي: لا تظلموا في الأربعة أشهر الحرم أنفسكم، وروى حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن يوسف بن مهران عن ابن عباس قال: ” فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُم ْ” في الاثني عشر”ا.هـ
وقبل أي شيء لابد أن نشير إلى معنى في غاية الأهمية , ألا وهو أننا نجد أن النبي
ذكر كل شهر باسمه بدون إضافته الى الله تعالى ,وعندما ذكر شهر المحرم أضافه الي الله تعالى فقال شهر الله المحرم ولم يقل مثلا شهر الله رمضان أو شهر الله شعبان وهكذا
فعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال: “أفضلُ الصِّيام بعد شهر رمضانَ شهرُ اللهِ الذي تدعونه المحرمَ، وأَفضلُ الصَّلاةِ بعدَ الفريضةِ قيامُ الليل “. رواه مسلم
يقول ابن رجب رحمه الله
وقد سمَّى النبيُّ صلى الله عليه وسلم المحرَّمَ شهرَ اللهِ. وإضافته إلى الله تدُلُّ على شرفه وفَضْلِهِ، فإنَّ الله تعالى لا يضيفُ إليه إلا خواصَّ مخلوقاته، كما نسَبَ محمدًا وإبراهيمَ وإسحاقَ ويعقوبَ وغيرَهم من الأنبياء – صلوات الله عليهم وسلامه – إلى عبوديته، ونسَبَ إليه بيته وناقته.([1]) «ولما كان هذا الشهرُ مختصًّا بإضافته إلى اللهِ تعالى، وكان الصِّيامُ من بين الأعمالِ مضافًا إلى
اللهِ تعالى؛ فإنَّه له من بين الأعمال، ناسَبَ أن يختصَّ هذا الشهرُ المضافُ إلى الله بالعملِ المضاف إليه، المختصِّ به، وهو الصِّيامُ. ([2])
قال ابن حجر: “هذا يقتضي أن يوم عاشوراء أفضل الأيام للصائم بعد رمضان، لكن ابن عباس أسند ذلك إلى علمه، فليس فيه ما يرد علم غيره، وقد روى مسلم من حديث أبي قتادة مرفوعاً أن صوم عاشوراء يكفر سنة، وأن صيام يوم عرفة يكفر سنتين، وظاهره أن صيام يوم عرفة أفضل من صيام عاشوراء، وقد قيل في الحكمة في ذلك إن يوم عاشوراء منسوب إلى موسى _عليه السلام_، ويوم عرفة منسوب إلى النبي _صلى الله عليه وسلم_ فلذلك كان أفضل” ا.هـ.
يقول ابن رجب رحمه الله
وهذا الحديثُ صريحٌ في أن أفضلَ ما تُطوِّعَ به من الصِّيام بعد رمضان صومُ شهر الله المحرم، وقد يَحتملُ أن يراد أنه أفضلُ شهرٍ تُطوِّعَ بصيامه كاملًا بعدَ رمضان.([3])
وعن عليٍّ أن رجلًا أتى النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسولَ الله، أخبرني بشهرٍ أصومُه بعدَ شهرِ رمضانَ، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: “إنْ كنْتَ صائمًا شهرًا بعدَ رمضانَ فصُمِ المحرمَ فإنه شهرُ اللهِ؛ وفيه يومٌ تاب اللهُ فيه على قومٍ ويتوبُ على آخرين”. اخرجه الإِمام أحمد والترمذيُّ
فقد استحب جمهور الفقهاء صيام الأشهر الحرم لما رواه أبو داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للرجل “صم من الحرم واترك” ثلاث مرات
وقد رُوي أن أسامة بن زيد كان يصوم الأشهرَ الحُرُمَ، وقد رُوي عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه أمَرَ رجلًا أن يصومَ الأشهرَ الحُرُمَ،
وأفضلُ صيامِ في الأشهرِ الحُرُم صيامُ شهر الله المحرَّمِ
أفضل الأشهر الحرم
اختلف العلماءُ في أي الأشهر الحُرُمِ أفضلُ، فقال الحَسَنُ وغيرُهُ: أفضلُها شهرُ اللهِ المحرَّمِ، ورجَّحَهُ طائفةٌ من المتأخرين. وروى وَهْبُ بن جَرِيْر، عن قُرَّةَ بن خالد، عن الحَسَن، قال: إن الله افتتح السَّنَةَ بشهر حَرام، وختمَها بشهر حَرام. فليس شهرٌ في السَّنةِ بعدَ شهرِ رمضانَ أعظم عند الله من المحرَّم، وكان يُسمى “شهرَ اللهِ الأصمَّ”؛ من شدَّة تحريمه.
فعن أبي ذَرٍّ، قال: سألتُ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم: أيُّ الليل خيرٌ، وأي الأشهر أفضَلُ؟ فقال: “خيرُ الليل جَوْفُهُ، وأفضلُ الأشهرِ شهرُ الله الذي تدعونه المحرَّم”. رواه النسائي
وذهب بعض العلماء الي فضل شهر ذي الحجة علي غيره
أنه شهر معظم عند العرب وعند المسلمين
قال أبو عثمان النَّهْدِيّ: كانوا يعظِّمون ثلاثَ عشراتٍ: العشرَ الأخيرَ من رمضان، والعشرَ الأولَ من ذي الحِجَّةِ، والعشرَ الأولَ من المحرَّمِ.
ورُوي عن وَهْب بن منبّهٍ، قال: أوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام أن مُرْ قومَكَ أن يتقربوا إليَّ في أول عشر المحرم، فإذا كان يومُ العاشرِ فليخرجُوا إليَّ أغفِرْ لهم.
البداية السعيدة
جميل أن يبدأ المسلم عامه بطاعة الله تعالى والإكثار من ذكره سبحانه وتعالى وهذا هو دأب السلف الصالح رضوان الله عليهم
فعن قتادة أن الفجرَ الذي أقسمَ الله تعالى به في أوَّل سورةِ الفجر هو فجرُ أولِ يومٍ من المحرَّمِ، تنفجرُ منه السَّنَةُ.
يقول ابن رجب
ولما كانت الأشهرُ الحرُمُ أفضلَ الأشهرِ بعدَ رمضانَ أو مُطلقًا، وكان صيامُها كلِّها مندوبًا إليه، كما أمر به النبيُّ صلى الله عليه وسلم، وكان بعضُها ختامَ السَّنةِ الهِلاليَّةِ، وبعضُها مفتاحًا لها، فمن صامَ شهرَ ذِي الحِجَّةِ سِوى الأيام المحرَّم صيامُها منه، وصامَ المحرَّمَ، فقد خَتَمَ السَّنَةَ بالطَّاعة وافْتَتَحَها بالطَّاعة، فيُرْجَى أن تكتبَ له سنتُه كلُّها طاعةً، فإنَّ مَن كان أولُ عملِه طاعةً وآخرُهُ طاعةً، فهو في حكم من استغرقَ بالطاعة ما بين العَمَلَيْن.
عن ابن المبارك قال: مَن ختمَ نهارَه بذكرِ الله كُتِبَ نهارُه كلُّه ذكرًا.
فضل الصيام فيه
معلوم أن الصِّيامُ سرٌّ بينَ العبدِ وبين ربِّهِ، وهو من أجل القربات الى الله تعالى وكما جاء في الحدث القدسي : “كلُّ عملِ ابن آدمَ له إلَّا الصَّومَ فإنَّه لي وأنا أَجْزِي به، إنَّه تركَ شهوتَه وطعامَه وشرابَه من أجلي”. وفي الجنة بابٌ يقال له “الرَّيَّانُ” لا يدخلُ منه إلَّا الصائمون، فإذا دخلوا أُغلِقَ فلم يدخلْ منه غيرُهم.
وكان كثير من الصحابة والتابعين يصوم الأشهرَ الحرُمَ كلَّها كابنُ عمرَ والحسنُ البصريُّ وغيرُهما.
مُتَوَالِيَاتٌ: ذُو الْقَعْدَةِ، وَذُو الْحِجَّةِ، وَالمُحَرَّمُ، وَرَجَبُ مُضَرَ الذي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ)) متفق عليه.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال: “أفضلُ الصِّيام بعد شهر رمضانَ شهرُ اللهِ الذي تدعونه المحرمَ، وأَفضلُ الصَّلاةِ بعدَ الفريضةِ قيامُ الليل “. رواه مسلم
عن أبي قَتَادَة: أن رجلًا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن صيام عاشوراء، فقال: (أحتسِبُ على اللهِ أن يُكفِّر السنةَ التي قبلَه) صحيح مسلم
عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سئل عن صَوْمِ يوم عاشوراء، فقال: “ما رأيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم صامَ يومًا يتحرَّى فَضْلَه على الأيام إلَّا هذا اليوم، يعني يوم عاشوراء؛ وهذا الشهر، يعني رمضان”. البخاري ومسلم
يقول ابن رجب :
يوم عاشوراء له فضيلةٌ عظيمة وحرمةٌ قديمةٌ، وصومُهُ لفضلِهِ كان معروفًا بين الأنبياء عليهم السلام، وقد صامَه نوحٌ وموسى عليهما السلام، وروى إبراهيمُ الهَجَرِيُّ، عن أبي عِياضٍ، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: “يومُ عاشوراءَ كانت تصومُهُ الأنبياءُ فصُومُوه أنتُم”. خرَّجَه بَقِيُّ بن مَخْلَدٍ في “مسنده”. وقد كان أهلُ الكتاب يَصُومُونه، وكذلك قريش في الجاهلية كانت تصومُه.
وفي الصحيحين عن عائشةَ رضي الله عنها، قالت: “كان عاشُوراءُ يومًا تصومُه قريشٌ في الجاهليَّة، وكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يصومُه، فلمَّا قدِمَ المدينةَ صَامَهُ وأمَرَ بصيامِهِ، فلما نزلتْ فريضةُ شهرِ «رمضانَ كان رمضانُ هو الذي يصومُه، فتَرك يومَ عاشوراءَ، فَمَن شاءَ صامهُ، ومَن شاء أفطرَهُ”. وفي رواية للبخاري: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “مَنْ شَاءَ فليصم، ومن شاء أفطرَ”.
وفي الصحيحين عن ابن عباس، قال: “قدِمَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم المدينةَ فوجَدَ اليهودَ صُيَّامًا يومَ عاشوراءَ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما هذا اليومُ الذي تصُومُونه؟ قالوا: هذا يومٌ عظيم أنجى الله فيه موسى وقومَه، وأغرَق فرعونَ وقومَه، فصَامَهُ مُوسى شُكرًا، فنحنُ نصُومُهُ. فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: فنحنُ أحقُّ وأولى بموسى منكم، فصَامَهُ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وأمَرَ بصيامه.
وفي مسند الإمام أحمد، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: مرَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بأناسٍ من اليهود قد صاموا يوم عاشوراء، فقال: ما هذا من الصَّوم؟ قالوا: هذا اليومُ الذي نجَّى الله عز وجل فيه موسى عليه السلام وبني إسرائيلَ من الغَرَقِ، وغَرَّق فيه فرعون.
وهذا يومٌ استوت فيه السفينة على الجُودِي، فصامَ نوحٌ وموسى «عليهما السلام شكرًا لله عز وجل. فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: أنا أحقُّ بموسى وأحقُّ بصوم هذا اليوم، فأمَرَ أصحابَهُ
بالصَّوم. وفي الصحيحين عن سَلَمة بن الأَكْوَعِ رضي الله عنه: “أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ رجلًا مِن أَسْلَمَ: أنْ أذِّنْ في النَّاسِ: مَنْ أَكَلَ فليَصُمْ بَقيَّةَ يومِهِ، ومَنْ لَمْ يَكنْ أكَلَ فلْيَصُمْ؛ فإنَّ اليومَ يومُ عاشوراءَ”.
عن الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذ، قالت: “أرسلَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم غَداةَ عاشوراءَ إلى قُرَى الأَنْصَار التي حولَ المدينةِ: مَنْ كان أصبَحَ صائمًا فليُتِمَّ صَوْمَهُ، ومَنْ كانَ أصبَحَ مفطِرًا فليُتِمَّ بقيَّةَ يومِهِ. فكُنَّا بعدَ ذلك نصومُهُ، ونُصَوِّم صِبيانَنا الصغارَ منهم، ونَذْهَبُ إلي المسجد فنجعَلُ لهم اللُّعْبةَ مِنَ العِهْنِ، فإذا بكى أحدُهُم على الطَّعامِ أَعْطَيْناهُ إيَّاها حتَّى يكونَ عند الإِفطار”. وفي رواية: “فإذا سألونا الطَّعامَ أعطيناهم اللعبةَ تُلْهِيهِم، حتى يُتِمُّوا صَوْمَهُم.
وخرَّجَ الطبرانيُّ بإسنادٍ فيه جَهَالة، أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يدعو يومَ عاشوراءَ برُضَعَائِهِ ورُضَعَاءِ ابنتِهِ فاطمةَ فَيَتْفُلُ في أفواهِهِم، ويقولُ لأمَّهاتِهم: لا تُرْضِعوهُم إلى الليل، وكان ريقُهُ صلى الله عليه وسلم يجزئهم.
مراتب صيام يوم عاشوراء:
أولاً: صيام اليوم التاسع واليوم العاشر، وهذا أفضل المراتب؛ لحديث أبي قتادة عند مسلم أن النبي _صلى الله عليه وسلم_ قال في صيام يوم عاشوراء :أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله”، ولحديث ابن عباس عند مسلم أيضاً ” لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع والعاشر” .
ثانياً: صيام اليوم العاشر والحادي عشر؛ لحديث ابن عباس _رضي الله عنهما_، أن النبي _صلى الله عليه وسلم_ قال: ” خالفوا اليهود صوموا يوماً قبله أو يوماً بعده” ، أخرجه أحمد وابن خزيمة.
ثالثاً: صيام اليوم التاسع والعاشر والحادي عشر؛ لحديث ابن عباس مرفوعاً ” صوموا يوماً قبله ويوماً بعده” .
رابعاً: إفراد العاشر بالصيام ؛ لحديث أبي قتادة عند مسلم ” أن النبي _صلى الله عليه وسلم_ قال في صيام يوم عاشورا: أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله” .([4])
صيام عاشوراء قبل فريضة صيام رمضان
اختلفَ العلماءُ رضي الله عنهم، هل كان صومُ يومِ عاشوراءَ قبلَ فرضِ شهرِ رمضانَ واجبًا أم كان سنةً متأكدَةً؟ على قولين مشهورين؛ ومذهبُ أبي حنيفةَ أنَّه كان واجبًا حينئذ، وهو ظاهرُ كلام الإمام أحمد وأبي بكر الأثْرَم.
وقال الشافعي رحمه الله: بلْ كانَ متأكّدَ الاستحبابِ فقَطْ، وهو قولُ كثير من العلماء.
وفي “الصحيحين” أيضًا عن معاوية، قال: سمعْتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقولُ: “هذا يومُ عاشوراءَ، ولم يَكْتُب الله عليكم صيامَهُ، وأنا صائمٌ؛ فَمَنْ شاءَ فَلْيَصُمْ، ومَنْ شَاءَ فَلْيُفْطِرْ”.
عدد من الصحابة الكرام يحافظون علي صيام عاشوراء
«وممن رُوي عنه صيامُه من الصَّحابةِ عمرُ، وعلي، وعبدُ الرحمن بن عوف، وأبو موسى، وقيسُ بن سَعْدٍ، وابنُ عباس وغيرُهم. ويدُلُّ على بقاءِ استحبابِه قولُ ابن عباس رضي الله عنهما: “لم أرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يَصُومُ يومًا يتحرَّى فَضْلَه. على الأيام إلا يومَ عاشوراءَ وشهرَ رمضانَ”.
وخرَّج الإمامُ أحمد، والنسائي من حديث حَفْصَةَ بنتِ عُمَرَ أمِّ المؤمنين رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يدَعُ صيامَ يوم عاشوراء والعشرِ، وثلاثةِ أيَّامٍ من كل شَهْرٍ. وخرَّجُه أبو داود إلَّا أن عنده: “عن بعضِ أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، غير مُسَمَّاةٍ.
الحث علي صيام التاسع أو الحادي عشر مخالفَةً لأهل الكتابِ.
في صحيح مسلم، عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: حين صامَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عاشوراءَ وأمَرَ بصيامِه، قالوا: يا رسولَ الله! إنه يومٌ تُعظِّمُهُ اليهودُ والنَّصارَى. فقالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: “فإذا كان العامُ المقبِلُ – إن شاء الله – صُمْنا اليومَ التاسعَ”. قال: فلم يأتِ العامُ المقبِلُ حتى توفي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم. وفي رواية له أيضًا، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لئن بَقِيتُ إلى قابِل لأصُومَنَّ التَّاسِعَ”.
وفي مسند الإمام أحمد، عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: “صُومُوا يومَ عاشوراء، وخالِفُوا اليهودَ، صُومُوا قَبْلَه يومًا وبعدَه يومًا”. وجاء في روايةٍ “أو بعده”.
وممَّن رأى صيامَ التاسِع والعاشِر الشافِعيُّ وأحمدُ وإسحاق. وكَرِهَ أبو حنيفةَ إفرادَ العاشر وحدَه بالصَّوْم.
ورُئِي بعضُ العلماء المتقدِّمين في المنامِ فسئل عن حاله، فقال: غُفِرَ لي بصيام عاشورَاءَ ستينَ سنةً. وفي رواية: ويوم قبلَه ويوم بعدَه. وذكر عبدُ الوهاب الخَفّافُ في كتاب الصيام، قال سعيد: قال قَتادَةُ: كان يقالُ: صَومُ عاشوراء كفارةٌ لما ضيَّع الرَّجُلُ من زكاةِ مالِه. وقد رُوي أن يومَ عاشوراء كان يومَ الزِّينةِ الذي كان فيه ميعادُ موسى لفرعونَ، وأنه كان عيدًا لهم. ويروى أن موسى عليه السلام كان يلبَسُ فيه الكَتَّانَ ويكتحِلُ فيه بالإثمِدِ. وكانت اليهودُ مِن أهل المدينة وخيبَر في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يتَّخِذُونه عيدًا، وكان أهلُ الجاهلية يقتَدُون بهم في ذلك، وكانوا يَسْتُرُون فيه الكَعْبَةَ. ولكنْ شَرْعُنا وَرَدَ بخلافِ ذلك. ففي “الصحيحين” عن أبي موسى، قال: كان يومُ عاشوراءَ يومًا تعظِّمُه اليهودُ وتتَّخِذُه عيدًا، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: “صُومُوه أَنْتُم”. وفي رواية لمسلم: كان أهلُ خيبَرَ يَصُومُون يومَ
عاشوراءَ، يتخذُونَهُ عيدًا، ويُلْبِسُونَ نِساءَهُم فيه حُليَّهُم وشارَتَهُم، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: “فَصُومُوه أنتم”.([5])
ثواب التصدق في عاشوراء والتوسعة فيه علي الأهل:
وأَمّا الصَّدَقَةُ فيه فقد رُوي عن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: مَن صامَ عاشوراءَ فكأنما صام السَّنةَ، ومَنْ تصدَّقَ فيه كان كصدَقةِ السَّنةِ. أخرَجَهُ أبو موسى المَدِيني.
وأمَّا التوسِعَةُ فيه على العيالِ فقال حربٌ: سألْتُ أحمدَ عن الحديث الذي جاء: “مَنْ وسَّعَ على أهلِهِ يومَ عاشوراءَ” فلَمْ يَرَهُ شيئًا. وقال ابنُ منصور: قلت لأحمَدَ: هل سمعتَ في الحديثِ “مَنْ وسَّعَ على أهلِه يومَ عاشوراءَ وَسَّعَ الله عليه سائرَ السَّنَةِ”؟ فقال: نعم. رواه سفيان بن عُيَيْنة، عن جعفر الأحمر، عن إبراهيم بن محمد بن المُنتشِر، وكان من أَفضل أهل زمانه، أنه بلَغَه أنَّه مَنْ وسَّعَ على عيالِهِ يومَ عاشوراءَ وَسَّعَ الله عليه سائرَ سنتِهِ. فقال ابنُ عُيينَة: جرَّبناه منذُ خمسين سنة أو ستين سنة فما رأينا إلا خيرًا.
البدع التي تقام في عاشوراء:
وأما اتخاذُهُ مأتمًا كما تفعَلُهُ الرافضَةُ لأجل قتل الحسين بن علي رضي الله عنهما فيه، فهو من عَمَلِ مَنْ ضَلَّ سعيُهُ في الحياةِ الدنيا وهو يحسَبُ أنَّه يُحْسِنُ صُنعًا، ولم يأمر الله ولا رسولُه باتخاذ أيَّامِ مصائبِ الأنبياءِ وموتهم مأتمًا، فكيف بمن دُونَهم.([6])
قال العلَّامةُ الشيخُ عبدُ الله الفوزان حفظه الله: وقد ضلَّ في هذا اليومِ طائفتانِ:
طائفةٌ شابهت اليهودَ؛ فاتَّخَذت عاشوراءَ موسِمَ عيدٍ وسرورٍ، تُظهِر فيه شعائِرَ الفَرَح؛ كالاختضابِ، والاكتحالِ، وتوسيع النَّفَقاتِ على العيال، وطبخِ الأطعمةِ الخارجةِ عن العادةِ، ونحوِ ذلك من عَمَلِ الجُهَّالِ، الذين قابلوا الفاسِدَ بالفاسدِ، والبِدْعةَ بالبِدْعةِ.
وطائفةٌ أخرى اتَّخذت عاشوراءَ يومَ مأتَمٍ وحُزنٍ ونياحةٍ؛ لأجْلِ قَتْلِ الحُسَين بن علي -رضي الله عنهما- تُظهِرُ فيه شعارَ الجاهليةِ؛ مِن لطمِ الخدودِ، وشقِّ الجيوبِ، وإنشادِ قصائدِ الحُزن، وروايةِ الأخبارِ التي كَذِبُها أكثرُ من صِدْقِها، والقصدُ منها فتحُ بابِ الفتنةِ، والتفريقُ بين الأمَّةِ، وهذا عَمَلُ من ضلَّ سَعْيُه في الحياةِ الدُّنيا، وهو يحسَبُ أنَّه يحسِنُ صُنعًا.
وقد هدى اللهُ تعالى أهلَ السُّنَّةِ، ففَعَلوا ما أمَرَهم به نبيُّهم صلَّى اللهُ عليه وسلَّم من الصَّومِ، مع رعايةِ عدَمِ مشابهةِ اليهودِ فيه، واجتَنَبوا ما أمرهم الشَّيطانُ به من البِدَعِ، فلله الحمدُ والمِنَّة. ([7]).
[1] أراد ببيته بيتَ الله المحرَّم؛ قال تعالى: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ}. وأراد بناقته ناقة الله؛ قال تعالى: {هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ}» وفي الصيام قال الصيام لي
[2] «لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف» (ص77 ت السواس):
[3] «لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف» (ص77 ت السواس):