لن يخزيك الله أبدا
اعلم أيها الحبيب أن القلب الرحيم، الذي يحمل الخير للناس ويقدم لهم العون والمساعدة، لن يخزيه الله، ولن يتركه أبدا في الدنيا ولا في الأخرة:
عندما نزل الوحيُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم في غار حراء لأول مرة، رجع النبي ﷺ إلى السيدة خديجةَ رضي الله عنها فأخبَرَها وقال: ((لقد خشيتُ على نفسي))
فقالت له السيدة خديجة رضي الله عنها: “كلَّا والله لا يخزيك الله أبدًا؛ إنك لتصل الرحم، وتصدُقُ الحديثَ، وتَحمِل الكَلَّ، وتَكسِبُ المعدومَ، وتَقري الضيف، وتعين على نوائب الحق، وفي رواية وتؤدِّي الأمانة
الحديث كما في صحيح البخاري“
عن عروة بن الزبير عن عائشة أم المؤمنين أنها قالت أول ما بدئ به رسول الله ﷺ من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ثم حبب إليه الخلاء وكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه وهو التعبد الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله ويتزود لذلك ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها حتى جاءه الحق وهو في غار حراء فجاءه الملك، فقال اقرأ قال: ما أنا بقارئ قال: فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني، فقال اقرأ قلت: ما أنا بقارئ فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني، فقال اقرأ فقلت: ما أنا بقارئ فأخذني فغطني الثالثة ثم أرسلني، فقال { اقرأ باسم ربك الذي خلق. خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم } فرجع بها رسول الله ﷺ يرجف فؤاده فدخل على خديجة بنت خويلد رضى الله تعالى عنها، فقال زملوني زملوني فزملوه حتى ذهب عنه الروع، فقال لخديجة وأخبرها الخبر لقد خشيت على نفسي فقالت خديجة كلا والله ما يخزيك الله أبدا إنك لتصل الرحم وتحمل الكل وتكسب المعدوم وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق (ومعنى تَحمِل الكلَّ: أي تتحمَّل هموم الفقراء والضعفاء والأيتام بالإنفاق عليهم وإعانتهم بالمال، و تكسب المعدوم، أي: تتبرَّع بالمال علي معدوم المال ، وتَقري الضيف معناها: أنك تُكرم الضيوف، ومعنى تُعين على نوائب الحق: أي تُعين الناس علي ما يصيبهم من خير أو شر) فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى ابن عم خديجة وكان امرأ تنصر في الجاهلية وكان يكتب الكتاب العبراني فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب وكان شيخا كبيرا قد عمي فقالت له خديجة يا ابن عم اسمع من ابن أخيك، فقال له ورقة يا ابن أخي ماذا ترى فأخبره رسول الله ﷺ خبر ما رأى، فقال له ورقة هذا الناموس الذي نزل الله على موسى يا ليتني فيها جذع ليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك، فقال رسول الله ﷺ: أو مخرجي هم قال: نعم لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا ثم لم ينشب ورقة أن توفي وفتر الوحي))
قال الإمام النووي في شرح مسلم: معنى كلام خديجة رضي الله عنها إنك لا يصيبك مكروه؛ لما جعل الله فيك من مكارم الأخلاق وكرم الشمائل، وذَكَرَت ضروبًا من ذلك، وفي هذا دلالة على أنَّ مكارم الأخلاق وخصال الخير سببُ السلامة من مصارع السوء
وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: “صنائع المعروف تقي مصارع السوء، وصدقة السر تُطفئ غضبَ الربِّ، وصِلَةُ الرَّحِم تزيد في العمر صحيح الترغيب والترهييب
وفي رواية عن أنس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “صنائع المعروف تقي مصارع السوء، والآفات والهلكات.” صحيح الحاكم
وهذا ما يؤيده قوله تعالى : (( فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى ))
فإذا كان الرجل قد من الله عليه بهذه الصفات فاعلم أنه من المتقين ، وأنه في طرق الجنة يسير ويمشي ، وأن الله يسره لليسرى ، فهذه بشرى عاجلة للمؤمن
وإن حرمها وابتعد عنها ، فهو في طريق العسرى وطريق النار نعوذ بالله منها
قال الله تعالى
{( وأما من بخل واستغنى * وكذب بالحسنى * فسنيسره للعسرى} [الليل:10-
قال رسول ﷺ: اعملوا فكل ميسر لما خلق له، ثم قرأ: {فأما من أعطى واتقى * وصدق بالحسنى * فسنيسره لليسرى * وأما من بخل واستغنى * وكذب بالحسنى * فسنيسره للعسرى} [الليل:٥-١٠
قال الله تعالي (الذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم} [محمد:١٧]
وقال تعالي{والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين} العنكبوت:٦٩
قال عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: تعودوا الخير, فإن الخير بالعادة.
عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: من يتحر الخير يعطه, ومن يتوق الشر يُوقه.
قال ابن السماك: من أحب الخير وفق له, ومن كره الشر جنبه.
طريق التأييد من الله تعالي وعدم الخذلان
الطريق الأول – صلة الرحم:
ومعنى صلة الرحم : الإحسان إلى الأقارب في القول والفعل ، ويدخل في ذلك زيارتهم ، وتفقد أحوالهم ، والسؤال عنهم ، ومساعدة المحتاج منهم ، والسعي في مصالحهم ، وخدمتهم
عن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[ من سره أن يمد له في عمره ، ويوسع له في رزقه ، ويدفع عنه ميتة السوء ، فليتق الله وليصل رحمه ] . رواه البزار والحاكم
وعن أبي بكر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [ ما من ذنب أجدر أن يعجل الله لصاحبه بالعقوبة في الدنيا مع ما يدخر له في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم ] . رواه ابو داود والترمذي وابن ماجه
الطريق الثاني – صدق الحديث: وقد كان ﷺ معروفًا في الجاهلية بالصادق الأمين، وقال له قومه: “ما جرَّبنا عليك كذبًا قط
عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((عليكم بالصدق؛ فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وما يزال الرجل يصدق ويتحرَّى الصدق حتى يكتب عند الله صدِّيقًا…)) البخاري ومسلم
وأنواع الصدق متنوعة منها
الصدق مع الله: وذلك بإخلاص الأعمال كلها لله ،والمسلم يخلص في جميع الطاعات بإعطائها حقها وأدائها على الوجه المطلوب منه.
الصدق مع الناس: فلا يكذب في حديثه ويكون الظاهر مثل الباطن في الأقوال والأفعال والا كان منافقا قال رسول الله ﷺ: «آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ» البخاري
الصدق مع النفس: فيعترف بعيوبه وأخطائه ويصححها، ولا يخدع نفسه ويغمسها في الشهوات ، قال ﷺ: «دع ما يُرِيبُك إلى ما لا يُرِيبُك، فإن الكذب ريبة والصدق طمأنينة» (أحمد والترمذي والنسائي)
صدق المعاملة: كصدق البيع والشراء، عن أبي خالد حكيم بن حزام رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: «البيِّعان بالخيار ما لم يتفرقا؛ فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما» متفق عليه
الطريق الثالث أداء الأمانة:
والأمانة كل حقٍّ يجب أداؤه وحفظه؛ كالودائع فعندما هاجر رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، الي المدينة ،ترك سيدنا عليَّ بن أبي طالب ليرُدَّ الأمانات إلى أهلها
قال الله تعالي ﴿ِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا ﴾ سورة النساء 58
عن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أربعٌ إذا كن فيك، فلا عليك ما فاتك من الدنيا: صدق الحديث، وحفظ الأمانة، وحسن الخلق ، وعفة مطعم))؛ (صحيح الجامع: 873
أنواع الأمانة
الأمانة لها أنواع كثيرة، منها
الأمانة في العبادة
فيجب علي المسلم أن يؤدي الفروض الشرعية ،كما ينبغي، ويحافظ عليها كالصلاة والصيام وبر الوالدين، وغير ذلك من الفروض التي يجب علينا أن نؤديها لله رب العالمين
الأمانة في حفظ الجوارح
ويجب علي المسلم أيضا أن يحافظ علي جوارحه ، ولا يستعملها فيما يغضب الله؛ فالعين أمانة يجب علي المسلم أن يغضها عن الحرام، والأذن أمانة يجب عليه أن يجنِّبَها سماع الحرام، واليد أمانة، والرجل أمانة…الخ.
حفظ الودائع
وهي الأمانات وأداؤها لأصحابها عندما يطلبونها كما هي، مثلما فعل الرسول مع المشركين.
الأمانة في العمل
ومن الأمانة أن يؤدي المرء ما عليه على أكمل وجه، فالعامل يتقن عمله ، وكل صاحب حرفة يقوم بعمله بإتقان
قال رسول الله ﷺ (إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه) صححه الألباني
الطريق الرابع مساعدة الضعيف (وتَحمِل الكَلَّ):
أي تتحمَّل مؤونة الكَلِّ، وهو الضعيف واليتيم وذو العيال، فتُنفِق عليه، وتقوم على حاجته.
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه أن رجلًا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله: أي الناس أحب إلى الله؟ وأي الأعمال أحب إلى الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أحب الناس إلى الله تعالى أنفعهم للناس، وأحب الأعمال إلى الله تعالى سرور تدخله على مسلم، أو تكشف عنه كربة، أو تقضي عنه دينًا، أو تطرد عنه جوعًا، ولأن أمشي مع أخ في حاجة أحب إلي من أن أعتكف في هذا المسجد ـ–يعني مسجد المدينة–شهرًا، ومن كف غضبه ستر الله عورته، ومن كظم غيظه ـ ولو شاء أن يمضيه أمضاه ـ ملأ الله قلبه رجاء يوم القيامة، ومن مشى مع أخيه في حاجة ـ حتى يثبتها له ـ أثبت الله قدمه يوم تزول الأقدام” – رواه الطبراني : صحيح الترغيب
الطريق الخامس تَكسِب المعدوم:
أي تعطي المالَ لمعدوم وهو التبرَّع بالمال لمن لا يجده من فقراء ومساكين وأيتام
عن أبي هريرة قال قال رسول الله ﷺ السَّاعي على الأرملَةِ والمسكينِ كالمُجاهدِ في سبيلِ اللَّهِ أو كالَّذي يصومُ النَّهارَ ويقومُ اللَّيلَ )أخرجه البخاري
الطريق السادس تقري الضيف:
والمقصود به الإكرام ، والقِرى هو ما يُقدَّم للضيف من طعام وشراب، وما يحتاجه حال وجوده عند مضيفه.
قال رسول الله ﷺ (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، )” رواه البخاري ومسلم.
الطريق السابع تعين على نوائب الحق:
والنوائب جمع نائبة، وهي الحادثة أو المصيبة
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن من الناس مفاتيح للخير، مغاليق للشر، وإن من الناس مفاتيح للشر مغاليق للخير، فطُوبَى لمن جعل الله مفاتيح الخير على يديه، وويل لمن جعل الله مفاتيح الشر على يديه” – رواه بن ماجه
فهذي طرق سبعة للوصول الي تأييد الله تعالي ، ومن تحلي بها فاز بقول السيدة خديجة رضي الله عنها
لن يخزيك الله أبدا
رزقنا الله وإياكم نصرته ونعوذ بالله من خذلانة