التعريف بكـتاب البحر المحيط الثجاج
في شرح صحيح مسلم بن الحجاج
يُعَدُّ كتاب البحر المحيط الثجاج من أهم شروح صحيح الإمام مسلم, فقد ألف الإمام الإتيوبي الولوي كتابه الذي بين أيدينا, ليشرح به الأحاديث التي جمعها الإمام مسلم ابن الحجاج وأودعها في كتابه الصحيح، والذي شرحه كثير من العلماء قبله, ولكن مع تأخر شرح الإمام الإتيوبي الولوي عمن سبقه, إلا أنه تميز بميزات لم توجد في غيره، وقد انتقى الإمام الإتيوبي الولوي لنفسه منهجا يميزه عمن سبقه من الشراح، وينعكس على كتابه بالسهولة واليسر في فهم المعاني والمفردات, ومن ثم سرعة الوصول إلى الأحكام الشرعية والفقهية.
فقد جاء شرحه مقتبسا من كتب كثير من العلماء السابقين له مثل: القاضي عياض وهو الإِمَامُ، العَلاَّمَةُ، الحَافِظُ، شَيْخُ الإِسْلاَمِ، الأَنْدَلُسِيُّ المَالِكِيُّ (المتوفى: 544هـ) ([1]) وابن الصلاح , والقرطبي: أحمد بن عمر ابن إبراهيم ( المتوفى : 656هـ), فقيه مالكي من رجال الحديث ([2]), والإمام النوويّ , وكتاب فتح الباري بشرح صحيح البخاري لابن حجر العسقلانيّ , وكذا كتب الأئمة الحفاظ مثل: ابن المنذر (المتوفى : 327هـ), حافظ للحديث من كبارهم ([3]) , والبيهقي (المتوفى: 458هـ ) الفقيه الشافعي , الحافظ الكبير المشهور ([4]), والبغوي ويُلقب بمحيي السنّة (المتوفى:510هـ),فقيه، محدث، ومُفسر ([5]) والخطابي (المتوفى: 388هـ), وهو الْإمَام أَبُو سُلَيْمَان الخطّابي البُسْتي الفقيه الْأديب ([6]).
والمنذريّ (المتوفى:656هـ),عالم بالحديث والعربية، من الحفاظ المؤرخين([7]) والذهبي, وابن حزم الظاهري، (المتوفى :456هـ) عالم الأندلس في عصره، وأحد أئمة الإسلام([8] ), وابن دقيق العيد تقيّ الدين القشيري المعروف كأبيه وجده بابن دقيق العيد (المتوفى: 702هـ)، ومن أكابر العلماء بالأصول ([9]), وابن الملقن (المتوفى : 804هـ) من أكابر العلماء بالحديث، والفقه، وتاريخ الرجال ([10] ), وابن تيمية ( المتوفى : 728هـ) الإمام، شيخ الإسلام ([11]) وابن القيم شمس الدين (المتوفى : 751هـ), من أركان الإصلاح الإسلامي، وأحد كبار العلماء ([12]), والطيبي شرف الدين (المتوفى:743هـ), من علماء الحديث والتفسير والبيان ([13]), والصنعاني ( المتوفى:211هـ), من حفاظ الحديث الثقات ([14]), والشوكانيّ (المتوفى: 1250هـ), فقيه من كبار علماء اليمن ([15] ), وابن الأثير (المتوفى : 606هـ) ([16] ).
والفيومي أبو العباس (المتوفى : 770هـ) : لغويّ، اشتهر بكتابه (المصباح المنير) ([17] ), وابن منظور (المتوفى : 711هـ),صاحب (لسان العرب) ([18]), والفيروز آبادى مجد الدين الشيرازي صاحب كتاب (القاموس المحيط) ( المتوفى : 817هـ) , من أئمة اللغة والأدب ([19]) , وجمعٌ كبير من العلماء .” ([20] ) , وكذلك العديد من المؤلفات الحديثة التي تناولت سيرة الإمام مسلم , وشرح صحيحه .
منهج الإمام الإتيوبي الولوي في كتابه:
قبل البدء في الحديث عن منهج الإمام الإتيوبي الولوي في شرحه لكتابه الذي نحن بصدد الحديث عنه, أود أن أنوه أولا عن اسم الكتاب (البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الامام مسلم بن الحجاج) كما يتراء لي, ومما فهمته من قراءتي للكتاب.
أولا- معنى كلمة (بحر):
الْبَاءُ وَالْحَاءُ وَالرَّاءُ أصل واحد ([21]).
قَالَ الْخَلِيلُ: ” سُمِّيَ الْبَحْرُ بَحْرًا لِاسْتِبْحَارِهِ وَهُوَ انْبِسَاطُهُ وَسَعَتُهُ. وَاسْتَبْحَرَ فُلَانٌ فِي الْعِلْمِ، وَتَبَحَّرَ الرَّاعِي فِي رِعْيٍ كَثِيرٍ. قَالَ أُمَيَّةُ: ([22])
انعِقْ بِضَانِكَ فِي بَقْلٍ تَبَحَّرُهُ … بَيْنَ الْأَبَاطِحِ وَاحْبِسْهَا بِجِلْدَانِ
وَتَبَحَّرَ فُلَانٌ فِي الْمَالِ” ([23]).
وأما لفظ (المحيط) فقد جاء في لسان العرب:” وأَحاطَ بالأَمر : إِذا أَحْدَقَ بِهِ مِنْ جَوانِبِه كلِّه ” ([24] ). ولفظ (الثجاج) كلمة مأخوذة من مادة (ث ج ج) كما ذكر العلاّمة الخليل بن أحمد يقوله : ” الثَجُّ: شِدَّة انصِباب المَطَرِ والدَّمِ، ومَطَرٌ ثجاجٌ” ([25] ), وتبعه ابن فارس فقال:” الثَّاءُ وَالْجِيمُ أَصْلٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ صَبُّ الشَّيْءِ , يُقَالُ ثَجَّ الْمَاءَ إِذَا صَبَّهُ؛ وَمَاءٌ ثَجَّاجٌ, أَيْ : صَبَّابٌ, قَالَ تَعَالَى: وأنـزلنا من المعصرات ماء ثجاجا [النبأ: 14] ([26] ) فكأن المراد من معنى اسم الكتاب أن الشيخ الأتيوبي – رحمه الله – قد بسط وتوسع في مادة الكتاب العلمية , وأحاط بما في الحديث الشريف من كل جوانبه , حتى غدا ما ذكره فيه كأنه بحر منهمر غزير العلم , فهو لم يترك كلمة في الحديث إلا وشرحها , وبينها للقارئ, ويسرها له حتى تكتمل الاستفادة , ويزول المبهم من الحديث فلا يختلط عليه قول رسول الله ^ , وهو ما نبّه عليه الشيخ – رحمه الله – في شرح لكتابه, وما أذكره لاحقا.
فجاء الكتاب جامعاً للمواد الإسنادية، والمتنية، والمصطلحية، واللغوية، والنحوية والصرفية، والفقهية، وغيرها، مما يحتاج إليه طالب علم الحديث من فنون العلوم الشرعية , كما ذكر الإمام الأتيوبي ترجمة المُصنف: الإمام مسلم باستفاضة، وتعريف كتابه (صحيح مسلم) ؛ ليَعْرفَ قدرَه الخاصُّ والعام، ويُنشر فضلُهُ العام بين الأنام، وذلك في كتابه ” قرة عين المحتاج في شرح مقدمة صحيح الإمام مُسلم بن الحجاج ” , والله تعالى أعلى وأعلم .
وينبه الإمام الأتيوبي الولوي على منهجه المتبع في كتابه , وهو قريب مما ذكره في كتابه ” ذخيرة العقبى في شرح المجتبى” شرح سنن النسائي : ” إني لست في الحقيقة مؤلفاً ذا تحرير، ومصنفاً ذا تحبير، وإنما لي مجرد الجمع لأقوال المحققين، ومرتبٌ لها في كل ما يناسبها من الحديث، ثم النظرُ فيها، وفي تناسبها، حسب قربها وبعدها منه والاعتمادُ على ما يترجح لدى فهمي القاصر، وذهني البليد الفاتر، فلذا لا أترك من الأقوال المروية في حكم كل حديث إلا ما غاب عني بدليله، إذا كان بجانبه دليل مذكور، وإن كنت أراه ضعيفاً في نظري، فعسى أن يطَّلع عليه غيري، ويراه صحيحاً، لدليل يُقَوِّيه، إما من نفس ذلك الحديث لم يظهر لي وجهه، أو نص آخر أقوى منه “فرب مُبَلَّغ أوعى من سامع.” ([27] ).
فنراه بدأ شرح كتابه البحر المحيط الثجاج بمقدمة بدأها بتسمية الله وحمده – عز وجل – وبالإقرار بوحدانية الله, وأن محمدا عبده ورسوله, ومصليا على رسوله – صلى الله عليه وسلم– ثم بعد ذلك صرح الإمام الأتيوبي الولوي بمنهجه الذي صار عليه في كتابه فنراه يقول في ذلك:
[أما بعد]: فلمّا يسّر الله تعالى لي بفضله شرح مقدّمة صحيح الإمام مسلم رحمه الله تعالى، شرحًا مطوّلًا مستوعبًا لمقاصدها، ومحتويًا على فوائدها، ويسّر الله تعالى طبعه، ونشره بين أهل العلم، أحببتُ أن أتطفّل بإلحاق ذلك بشرح “صحيحه” كاملًا، شرحًا يستوفي مقاصده، ويحوي فوائده، ويستوعب مباحثه، ويزيل ملتبساته، ويفتح مقفلاته، ويبيّن ما تضمّنه من أنواع العلوم، وأسرار الفهوم، ويوضّح ما وقع فيه من المشكلات الإسناديّة، أو المتنيّة، وغير ذلك من المطالب التي هي من أهمّ المهمّات لطلّاب العلم، ولا سيّما طلّاب الحديث، مستمدًّا ذلك من فيض فضل الملك الوهّاب، ومقتبسًا من كلام أولي الألباب، من جهابذة أهل الحديث، ممن أسهموا في خدمة هذا الفنّ في القديم والحديث، وأخصّ منهم شُرّاحه الحفّاظ الأئمة الأخيار: القاضي عياضًا، وابن الصلاح، والقرطبي، والنوويّ. وحَذَام المحدثين في المتأخرين، أحمد بن محمد بن عليّ المعروف بابن حجر العسقلاني، في كتابه العديم النظير في بابه “فتح الباري شرح صحيح البخاري”، فقد قلت فيه: لولا فتح الباري، ثم “فتح الباري” ما قضيت أوطاري.
وكذا كتب الأئمة الحفّاظ: ابن المنذر، والبيهقيّ، والبغويّ، والخطابي، والمنذريّ، والذهبيّ، وابن حزم، وابن دقيق العيد، وابن المُلَقّن، وابن تيميّة، وابن القيّم، والعينيّ، وابن قُدامة، والصنعانيّ، والشوكانيّ، وابن الأثير، والفيّوميّ، وابن منظور، والمجد الفيروز آباديّ، وغيرهم ممن يمرّ عليك حين أعزو الكلام إليه، رحمهم الله تعالى أجمعين، وحشرنا في زمرتهم، وأدخلنا مدخلهم الكريم آمين.
فسيكون الشرح – إن شاء الله تعالى – بحوله وقوته قرّة أعين محبي السّنَّة، يزيل عنهم كلّ غبَش وسِنَة. فيا طلّاب علم الحديث أهلًا بكم في رِحَاب كتاب نفيس، رائق الحديث لكل جليس، ولكل من استوحش ببعده عن فنّ الحديث أنيس (1).
ولا أريد أن أُطيل بوصفه البيان، بل أكتفي بِلَمْحَةِ البنان، فإن الذَّكِيَّ يَفْهَمُ بأدنى إشارة، ما لا يَفهَمه الغبيّ بألف عبارة، والبليدُ لا يفيده التطويل، ولو تُلِيَت عليه التوراة والإنجيل، والمشاهدة أعلى من الشهادة، وأقوى الوسائل في الإفادة.
يَا ابْنَ الْكِرَامِ أَلَا تَدْنُو فَتُبْصِرَ مَا … قَدْ حَدَّثُوكَ فَمَا رَاءٍ كَمَنْ سَمِعَا
(وسمَّيتُهُ: “البحرَ المحيط الثَّجَّاج في شرح صحيح الامام مسلم بن الحجاج”، رحمه الله تعالى).
واللهَ تعالى الكريمَ أسألُ القَبولَ، والإخلاصَ، وأن ينفعني به، وكلَّ مَن تلقّاه بقلب سليم يومَ وقوعِ القصاص، إنه سميعٌ قريبٌ مجيبٌ الدعوات، ﭽ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﭼ الشورى: ٢٥ ﭽ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﭼ هود: ٨٨.
وقبلَ أن أَشْرَعَ في المقصود – بعون الملك المعبود – ينبغي أن اقدّم تنبيهين مهمّين:
التنبيه الأول: في بيان منهجي في شرح هذا الكتاب:
اعلم: أن منهجي الذي سلكته في هذا الشرح كما يلي:
(1) – ترقيم أبواب الكتاب، وأحاديثه، وقد جعلت له رقمين:
الأول: رقمي الذي اتخذته رقمًا مفصّلًا لأحاديث الكتاب كلها، وصورته هكذا.
والثاني: رقم محمد فؤاد عبد الباقي رحمه اللهُ، وجعلته بعد رقمي، وصورته هكذا (1)، وإذا لم يرقم له؛ لكونه يراه مكرّرًا، فأكتب له هكذا ( … ) إشارةً إلى أنه اعتبره مكرّرًا.
(واعلم): أن ترقيم محمد فؤاد، وإن كان غير معتبر في الحقيقة، كما أسلفته في شرح المقدّمة، لكن اعتمد عليه الناس؛ لاعتماد أصحاب المعاجم والمفهرسات، والبرامج الحديثة عليه، وشهرته بينهم، وقد كنت قديمًا أعرضت عنه، وزهدت فيه؛ لعدم كونه ترقيمًا صحيحًا؛ إذ ترك ترقيم المكرّرات، ويجعل أحيانًا رقمين فأكثر لحديث واحد، وربّما يعكس، لكنّي اضطررت أخيرًا أن أُدخله؛ لما ذكرتُ من اعتماد الناس عليه، وجعلت الإحالات التي في التخريج مبنيّة عليه، فإذا أحلت حديثًا يأتي، أو مضى بالرقم، فالمراد به رقمه، لا رقمي الذي التزمته لجميع أحاديث الكتاب، وهذا من باب التيسير على الناس؛ لئلا يدخل التشويش عليهم لو غيّرت الأرقام المألوفة لهم، فليُتفطَّن لذلك، فإنه مهمّ جدًّا.
(2) – كتابة نصّ العنوان: الكتاب، أو الباب، وقد سبق أن تراجم الأبواب ليست من وضع المصنف رحمه الله تعالى، وإنما هي من وضع الشرّاح، وأنا أتوخى أليق الترجمة بالحديث، فأضعه، هذا بالنسبة للأبواب، وأما أسماء الكتب، كـ”كتاب الإيمان”، و”كتاب الطهارة”، ونحو ذلك، فإنها من وضعه، وقد تقدّم البحث في هذا مستوفًى في مقدّمة شرح المقدّمة، ثم أشرح ما وضعه المصنّف من أسماء الكُتُب، على ما يليق بها، وأما أسماء الأبواب فلا أتعرّض لها؛ لعدم كونها من وضع المصنف، فتنبّه.
(3) – كتابة نصّ الحديث سندًا ومتنًا.
(4) – ذكر تراجم رجال السند، مسلسلًا بالأرقام، وأذكر له عنوانًا بقولي: “رجال هذا الإسناد: خمسة”، أو ستة، أو نحو ذلك.
(5) – إن كان المترجم لم يَسْبِقْ له ذكرٌ، توسّعت في ترجمته بذكر ما قاله علماء الجرح والتعديل، حتى يُعْرَف حقَّ المعرفة بما له وما عليه، وإن تقدّمت ترجمته ذكرتُ ما يُعْرَف به من نسبه، وطبقته، ومرتبته في العدالة، والضعف، ووفاته، ومن أخرج له مع المصنّف من أصحاب الأصول، ثم أُحيله على المحلّ الذي سبقت ترجمته المطوّلة فيه برقم الباب والحديث.
(6) – أعتمد في الترجمة أوّلًا على عبارة “تقريب التهذيب” حتى تكون كالْفَذْلَكَة لما يأتي، ثم أذكر بعدها ما يكون كالتفصيل لها من الكتب الأخرى، وغالبًا أنقله من “تهذيب التهذيب”، وإذا كان صحابيًّا فمن “الإصابة في تمييز الصحابة”، وقليلًا من “لسان الميزان”، و”تعجيل المنفعة”، و”هدي الساري مقدّمة فتح الباري”، وكلها للحافظ أبي الفضل ابن حجر المتوفّى سنة (852 هـ) رحمه الله تعالى، ومن “تهذيب الكمال” للحافظ أبي الحجّاج المزّيّ المتوفّى سنة (742 هـ) رحمه الله تعالى، و”الخلاصة” للحافظ الخزرجيّ المتوفّى سنة (923 هـ) رحمه الله تعالى، و”سير أعلام النبلاء”، و”تذكر الحفّاظ”، و”ميزان الاعتدال”، وكلها للحافظ الذهبيّ المتوفّى سنة (748 هـ) رحمه الله تعالى، و”التاريخ الكبير” للإمام البخاريّ المتوفّى سنة (256 هـ) رحمه الله تعالى، و”الجرح والتعديل” للإمام ابن أبي حاتم المتوفّى سنة (327 هـ) رحمه الله تعالى، و”الثقات” للإمام ابن حبّان البستيّ المتوفّى سنة (354 هـ) رحمه الله تعالى، وغيرها مما كتبه المحقّقون الأعلام رحمهم الله تعالى.
(7) – ذكر لطائف الإسناد.
(8) – أكتب الطبقات بين القوسين هكذا [1]، ورقم الباب والحديث هكذا 1/ 1، فالرقم الذي قبل الخطّ المائل للباب، والذي بعده للحديث.
فأقول مثلًا: زُهير بن حرب – شيخ المصنّف في أول “كتاب الإيمان” – النسائيّ، نزيل بغداد، ثقة ثبت [10] 1/ 4 فرقم العشرة للطبقة، ورقم الواحد الذي قبل الخط المائل للباب، ورقم الأربعة الذي بعده للحديث، فمعناه أن زهيرًا من الطبقة العاشرة، وقد تقدّمت ترجمته كاملةً في الحديث الرابع، من الباب الأول، وهكذا.
(9) – ثم أَدْخُلُ في شرح الحديث مبتدءً بذكر الصحابيّ، أو مَن دونه حسب ارتباط الكلام، وأكتب له عنوانًا بلفظ: “شرحُ الحديث”، ثم أقول: “عن أبي هريرة – رضي الله عنه – … “، فأذكر ما يتطلّبه ذلك الحديث من شرح غريبه، وبيان صرفه، وإعرابه، وإيضاح ما يُستشكل من جُمَله، وذلك ببيان أقوال اللغويين، والنحويين، والبيانيين، والفقهاء المعتبرين، وغير ذلك.
(10) – ثم أذكر المسائل التي تتعلّق بذلك الحديث، فأكتب عنوانًا: “مسائل تتعلّق بهذا الحديث”، فأقول مثلًا:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – هذا متّفقٌ عليه، وإن كان مما انفرد به المصنّف أقول: انفرد به المصنّف، وأريد به انفراده عن البخاريّ، لا عن بقية أصحاب الأصول، فليُتنبّه لهذا. و (المسألة الثانية) في تخريجه، ويشمل ذلك بيان مواضع ذكر المصنّف له، وتخريجه من الكتب الستّة، و”مسند أحمد”، و”مسند عبد بن حُميد”، و”مسند الحميديّ”، و”مسند البزّار”، و”مسند أبي يعلى”، و”مسند أبي عوانة”، وهو مستخرج على هذا الكتاب، و”مستخرج أبي نعيم” على هذا الكتاب أيضًا، و”معاجم الطبرانيّ الثلاثة”، و”الإيمان” لابن منده، و”صحيح ابن خزيمة”، و”صحيح ابن حبّان”، و”مستدرك الحاكم”، وكتب الطحاويّ، والبيهقيّ، والبغويّ، وغيرها من المصنّفات الحديثيّة حسبما تيسّر.
و(المسألة الثالثة) في فوائده، وأُشير في الفائدة الأولى إلى وجه المطابقة لذكر الحديث في ذلك الباب.
و(المسألة الرابعة) في اختلاف أهل العلم في حكم كذا، إذا كان هناك اختلاف بينهم في مسألةٍ ما من الحديث، وهلُمّ جرًّا بحسب كثرة متعلّقات الحديث وقلّتها، وهكذا كلّ حديث إلى أن ينتهي الباب، أو الكتاب.
(11) – العناية بإتمام إحالات المصنّف بقوله: “مثل حديث فلان”، أو “مثله”، أو “نحوه”، أو غير ذلك، فأذكره من الكتب التي أخرجته، بسنده ومتنه، كالكتب التي تقدّم ذكرها آنفًا، وغيرها من الكتب التي تعتني بإخراج الحديث بإسناده.
وهذا البحث مهمّ جدًّا، فإن إحالات المصنّف رحمه الله في هذا الكتاب كثيرة، ولم يَقُم أحد من الشرّاح فيما وصل إليّ بهذا المهمّ، مع شدّة الحاجة إليه، فأنا – إن شاء الله تعالى – سأبذل جهدي في إتمام ذلك، كسائر الأمور التي ذكرتها، أسأل الله تعالى العظيم رب العرش العظيم أن يوفّقني لذلك.
اللهمّ لا سهل إلا ما جعلته سهلًا، سهّل لي بمنّك وكرمك إتمام هذا الشرح على الوجه المطلوب، إنك جواد كريم، رؤوف رحيم، آمين آمين آمين.
***
[التنبيه الثاني]: في ذكر أسانيدي إلى الإمام مسلم رحمه الله في هذا الكتاب:
(اعلم): أنه قد سبق أن ذكرت الإسناد إلى الإمام مسلم رحمه الله في شرح المقدِّمة، لكنّي أحببت إعادته هنا في أول هذا الشرح ليسهل لمن أراده؛ إذ ربّما يَشُقّ على بعض الناس مراجعة شرح المقدّمة، ولا سيّما مع اختلاف اسم الكتابين“([28]).
ومن خلال ما ذكره الإمام الإتيوبي الولوي لمنهجه الذي صار عليه في مقدمة كتابه يتضح أنه صار بشرحه على نفس خطى الإمام مسلم في ترتيبه للأحاديث، وكذلك معظم ترتيب الشراح قبله، ذاكرًا الحديث كاملًا مع ذكر رواياتٍ أخرى إن وجدت، ثم بعد ذلك يشرع في شرحه للحديث، فيبدأ بذكر ترجمة مفصلة عن راوي الحديث، كاشفًا عن اسمه ونسبه ومولده وأثره ومناقبه في الإسلام ثم وفاته، ثم بعد ذلك، يقوم بشرح مفردات الحديث، وبيان الغريب منها موضحًا الأحكام الفقهية والمسائل المتعلقة بالحديث، مرصعًا كل ذلك بالأوجه اللغوية المختلفة، صوتية وصرفية وإعرابية ودلالية معجمية، كاشفًا عن هذه الأوجه اللغوية بزيادة الإيضاح والتقريب لهذه المسائل الفقهية والأحكام الشرعية؛ نظرًا للارتباط الوثيق بين الأوجه اللغوية، وما يترتب عليها من تغيير في الدلالة والمعنى الذي يترتب عليه حكم شرعي، ثم بعد ذلك يذكر ما يستفاد من الحديث، هذا هو المنهج العام الذي يدور حوله كتاب ((البحر المحيط الثجاج لشرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج))، والذي صرح به الإمام الأتيوبي الولوي في مقدمة كتابه، وعند قراءة كتاب الإمام الأتيوبي الولوي الذي بين أيدينا والسير بين أرجائه بشئ من التؤدة والتأني، يتضح: أن منهج الإمام الأتيوبي الولوي قد امتاز بسماتٍ منهجيةٍ خاصةٍ تميزه عن غيره من الشراح السابقين عليه، ومن ثم، يمكن أن نكشف عن أهم الملامح المنهجية البارزة التي عمل عليها الإمام الإتيوبي الولوي في شرحه لكتابه الذي بين أيدينا، والتي تتمثل فيما يأتي:
أولاً : إشارات الإمام الإتيوبي الولوي الصوتية والتي ظهر فيها اهتمامه بالمستوى الصوتي ، والتي شملت شتى الجوانب الصوتية ، وتتمثل هذه الإشارات فيما يلي :
ـ إشارته إلى الهمز وتركه ، فنجده يصرح بذلك في قوله : ويقال: يوسف بضم السين، وكسرها، وفتحها، مع الهمز، وتَرْكه، فهي ستة أوجه ([29])
ـ إشارته إلى الإبدال اللغوي ، ودور تقارب المخرج في وقوع الإبدال ، فنجده يصرح ـ مثلاً ـ بالإبدال بين التاء دالًا والطاء المهملتين؛ لتقارب المخرج، فنقل عن الفيومي ذلك بقوله قائلاً : “والتِّرْيَاقُ قيل: وزنه فِعْيَالٌ بكسر الفاء، وهو روميّ مُعَرَّث، ويجوز إبدال التاء دالا وطاء مهملتين؛ لتقارب المخارج، وقيل: مأخوذ من الريق، والتاء زائدة، ووزنه تِفْعال بكسرها؟ لِمَا فيه من ريق الحيّات، وهذا يقتضي أن يكون عربيًّا. انتهى ([30])
إشارته إلى المخالفة الصوتية، وكراهية اجتماع ثلاثة أحرف من جنس واحد، فيقول: أن أصل المصرَّاة: مَصْرُورة، أُبدلت إحدى الراءين ألفًا، كقوله تعالى: {وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس: 10]؛ أي: دَسَّسَها، كرهوا اجتماع ثلاثة أحرف من جنس (3).
إشارته إلى الحذف للتخفيف، فيصرح لذلك بقوله: ومِنْ حَذْف النون لمجرّد التخفيف ما رواه البغوي من قول النبيّ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: “لا تدخلوا الجنّة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابّوا”، والأصل: “لا تدخلون”، وما ذكره أبو الفرج في “جامع المسانيد” من قول وفد عبد القيس: “وأصبحوا يعلّمونا كتاب الله”.([31])
إشارته إلى الزيادة ودورها في المعنى، فيصرح لذلك بقوله: “شِقْصًا”، وهو بكسر الشين أيضًا، ويقال: الشَّقِيص أيضًا بزيادة ياء، وهو النصيب قليلًا كان أو كثيرًا([32]).
إشارته إلى الإتباع ودوره في التخفيف، فنقل عن الفيومي قوله: وقال الفيّوميّ – رحمه الله -: نَتُنَ الشيءُ بالضمّ نُتُونَةً، ونَتَانَةً، فهو نَتِينٌ، مثلُ قَرِيبٍ، ونتَنَ نَتْنًا، من باب ضَرَبَ، ونَتِنَ يَنْتَنُ، فهو نَتِنٌ، من باب تَعِبَ، وأنْتَن إنتانًا، فهو مُنْتِن، وقد تُكسر الميم للإتباع، فيقال: مِنْتِنٌ، وضمّ التاء إتباعًا للميم قليلٌ.([33]).
ثانياً : إشارات الإمام الإتيوبي الولوي إلى بعض الجوانب الصرفية ، واهتمامه بالمستوى الصرفي إيماناً منه بالدور الفَعَّال الذي يلعبه الجانب الصرفي في الدلالة اللغوية ؛ لذلك فقد نال هذا المجال قسطاً وافراً من العناية ؛ لذلك فقد عَمَدتُ إلى التعريج على بعض ما أورده الإمام ابن الملقن في كتابه من مسائلَ صرفيهٍ ، قد وظفها الإمام ابن الملقن لتقريب المعاني ، وشرح مفردات أحاديث الأحكام ، فمن هذه الإشارات الصرفية ما يلي :
ـ إشاراتُه إلى النسب في بعض الألفاظ ، كالنسب إلى لفظ ” سلمة ” فيقول: في بني سلمة بفتح السين المهملة وكسر اللام نسبةً إلى بطن من الأنصار، وهو “سلمة بن سعد بن علي”… قال ابن الأثير ـ رحمه الله ـ كذلك نسبه النحويون بفتح اللام والمحدثون يكسرونها([34]).
ـ وكذلك إشاراته إلى المقصور والممدود في الكثير من الألفاظ ، نذكر منها : قوله ” الحلوى، والحلواء مقصورًا وممدودًا لغتان، قال ابن ولاد: هي عند الأصمعيّ بالقصر تكتب بالياء، وعند الفراء بالمد تكتب بالألف، وقال الليث: الأكثر على المدّ، وهو كل حلو يؤكل، وقال الخطابيّ: اسم الحلوى لا يقع إلا على ما دخلته الصنعة، وفي “المخصص” لابن سِيدَهْ: هي ما عولج من الطعام بحلاوة، وقد تُطلق على الفاكهة([35]).
ـ وكذلك إشاراته إلى ظاهرة البنية بين الطول والقصر ، ويظهر ذلك عند (فَأَوَى إِلَى اللهِ، فَآوَاهُ اللهُ) قال القرطبيّ (1): الرواية الصحيحة بقصر الأول، وهو ثلاثيّ غير مُتعد، ومدّ الثاني، وهو متعدٍّ رباعيّ، وهو قول الأصمعي، وهي لغة القرآن، قال الله تعالى: {إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ} [الكهف: 10]؛ أي: انضمُّوا، ونزلوا، وقال في الثاني: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (6)} [الضحى: 6]؛ أي: فضمَّك إليه، وقال أبو زيد: آويته أنا إيواءً، وأويته: إذا أنزلته بك، فَعَلْتُ، وأفْعَلت بمعنًى([36]).
ـ إشاراته إلى ظاهرة “التذكير والتأنيث “، فيكشف عن ذلك قائلاً : و”السبيل”: الطريق، يُذكّر، ويؤنّث، قال ابن السّكّيت: والجمع على التأنيث: سُبُولٌ، كما قالوا: عُنُوق، وعلى التذكير: سُبُلٌ، وسُبْلٌ([37]).
ـ وقد أشار إلى جانب صرفي آخر ؛ ألا وهي ظاهرة ” نيابة الصيغ بعضها عن بعض ، ويظهر ذلك جلياً في قوله الأَفِيق: الأديم الذي لم يَتِمّ دَبْغُهُ، فإذا تمّ، واحمرّ، فهو أَدِيمٌ، يقال: أَفَقْتُ الجلدَ أَفْقًا، من باب ضَرَبَ: دبغتُهُ، فالأَفِيق فَعِيلٌ بمعنى مفعول[38]
ثالثاً : اهتمام الإمام الإتيوبي الولوي بالمستوى ( النحوي ) ، وكشفه عن الأوجه الإعرابية لبعض الألفاظ ، ويظهر ذلك من خلال إعرابه بعض الألفاظ وإظهار الأوجه الإعرابية الواردة فيها ، فنذكر نماذج لذلك ، كقوله : قال: الثلث، والثلث كثير”. قال النوويّ رحمه الله: “كثير” بالمثلثة، وفي بعض الرواية بالموحّدة، وكلاهما صحيح، قال القاضي عياض: يجوز نصب “الثلث” الأول، ورفعه، أما النصب فعلى الإغراء، أو على تقدير: افْعَل؛ أي: أَعْطِ الثلثَ، وأما الرفع فعلى أنه فاعل؛ أي: يكفيك الثلثُ، أو أنه مبتدأ، وحُذِف خبره، أو خبرٌ محذوف المبتدأ([39]).
وكذلك قوله: “لا أحسن مما تقول”، قال في “الفتح”: بنصب “أحسنَ”، وفتح أوله، على أنه أفعل تفضيل، ويجوز في “أَحسنُ” الرفع، على أنه خبر “لا”، والاسم محذوف؛ أي: لا شيءَ أحسنُ من هذا، قال: ووقع في رواية الكشميهنىّ بضم أوله، وكسر السين، وضم النون، ووقع في رواية أخرى: “لأَحسنُ”، بحذف الألف، لكن بفتح السين، وضم النون، على أنها لام القسم، كأنه قال: أحسن من هذا أن تقعُد في بيتك، حكاه القاضي عياض، عن أبي عليّ، واستحسنه، وحَكَى ابن الجوزيّ تشديد السين المهملة، بغير نون من الْحِسّ؛ أي: لا أعلم منه شيئًا. وقال في “العمدة”: قوله: “لا أحسن مما تقول”: لفظ “أحسن” أفعل تفضيل، و”من” في “مما” زائدة، قال التيميّ؛ أي: ليس أحسنُ مما تقول؛ أي: إنما تقول حسن جدًّا، قال ذلك استهزاءً، ويرْوَى: “لا أُحْسِنُ” بلفظ فعل المتكلم من المضارع، و”ما تقول” مفعوله، وقوله: “إن كان حقًّا” يصحّ تعلقه بما قبله وبما بعده([40])
ـ كما أشار الإمام الأتيوبي الولوي وصرح بالواسطة التي يتعدى بها الفعل ، وذلك بقوله : ” والْعِتْقُ – بالكسر – اسم منه، فهو عَاتقٌ، وَيتَعَدَّى بالهمزة، فيقال: أعتقته، فهو مُعْتَقٌ، على قياس الباب، ولا يتعدى بنفسه، فلا يقال: عَتَقْتُهُ، ولهذا قال في “البارع”: لا يقال: عُتِقَ العبدُ، وهو ثلاثيّ مبنيّ للمفعول، ولا أَعْتَقَ هو، بالألف، مَبْنِيًّا للفاعل، بل الثلاثيّ لازمٌ، والرباعيّ مُتَعَدٍّ، ولا يجوز: عَبْدٌ مَعْتُوقٌ؛ لأن مجيء مفعول من أَفْعَلْتُ شاذّ مسموعٌ، لا يقاس عليه، وهو عَتِيقٌ، فَعِيلٌ بمعنى مفعولٍ، وجمعه عُتَقَاءُ، مثلُ كُرَماء، وربما جاء عِتَاقٌ، مثلُ كِرامٍ، وأمةٌ عَتِيقٌ أيضًا، بغير هاء، وربما ثبتت، فقيل: عَتِيقةٌ، وجمعها عَتَائِقُ. انتهى كلام الفيّوميّ – رَحِمَهُ اللهُ –([41]).
وقوله: قال الجامع عفا الله عنه[42]: يستفاد مما ذَكَره في “القاموس”، و”شرحه” أن عَقَد بالتخفيف ثلاثيًّا لازم، وأما المتعدّي، فهو أعقدته بالألف، أو عقّدته بالتشديد([43]).
ـ كما أنه كشف لنا بالدليل القاطع أنَّ اختلاف الوجه الإعرابي يترتب عليه اختلاف الحكم الشرعي ، وذلك مما يؤكد لنا أن الإعراب قد يغيرُ دلالة الألفاظ ، فيظهر لنا ذلك من خلال ما أفصح به الإمام الأتيوبي الولوي عند إعرابه لفظ (فَأَمَرَ لَنَا بِخَمْسِ ذَوْدٍ) كذا وقع بإضافة “خمس” إلى “ذَوْد”، واستنكره أبو البقاء في “غريبه”، قال: والصواب تنوين “خمس”، وأن يكون “ذود” بدلًا من “خمس”، فإنه لو كان بغير تنوين لتغيّر المعنى؛ لأن العدد المضاف غير المضاف إليه، فيلزم أن يكون خمس ذود خمسة عشر بعيرًا؛ لأن الإبل الذود ثلاثة([44]).
ـ وكذلك إشاراته إلى المثنى والجمع بقوله : (قَصْعَتَيْنِ) بفتح القاف: تثنية قَصْعة، وهي الصَّحْفة، وجَمْعها قَصَعَاتٌ، محرّكةً، وقِصَعٌ، كعِنَب، وقصاعٌ، كجبال[45]
ـ وكذلك إشاراته إلى الممنوع من الصرف ، حيث قال في كلمة : ” الدنيا ” تأنيث الأدنى لا ينصرف مثل حبلى ؛ لاجتماع أمرين فيها:أحدهما الوصفية والآخر لزوم حرف التأنيث آخره[46]
رابعاً : اهتمام الإمام الإتيوبي الولوي بالمستوى ( الدلالي ) :
اهتم الإمام الإتيوبي الولوي بالمستوى الدلالي اهتماماً بارزاً ؛ وذلك لما يترتب على هذا الجانب من فهم لدلالات الألفاظ والربط بين هذه الدلالات ، وما يترتب عليها من أحكام فقهية وشرعية .
ـ وقد ظهر ذلك من خلال الطرق المختلفة والمسالك المتنوعة التي استخدمها الإمام الإتيوبي الولوي للكشف عن معاني الألفاظ ودلالاتها ، فجاء توضيحه لمعاني الكلمات موجزاً في ألفاظ ومحرراً ومفصلاً في ألفاظ أخرى .
فبذلك يمكننا القول أن الإمام الإتيوبي الولوي قد تنوعت عنده طرق التعبير عن المعنى ، وذلك من خلال اتجاهين رئيسيين هما :
الاتجاه الأول : تفسير معنى اللفظ ، وقد اشتمل هذا الاتجاه على أساليب متنوعة منها :
ـ تفسير معنى اللفظ وبيانه بمقارب واحد ، وذلك مثل قوله: “البشر : الخلق” ([47]) .
ـ ومنها تفسير معنى اللفظ بمقاربين ، وذلك مثل قوله : ” الشقص, والشقص النصيب والجزء” ([48]) .
ـ ومنها ـ أيضاً ـ تفسير معنى اللفظ وبيانه بذكر الشبيه والنظير ، وذلك مثل قوله: (وَالْقَذَى) بفتحتين؛ أي: الوسخ، وقال في “العمدة”: القذى بفتح القاف، وفتح الذال المعجمة، مقصورًا هو الذي يقع في العين، يقال: قذت عينه: إذا وقع فيها القذى؛ كأنه شبّه ما يصير في الضرع من الأوساخ بالقذى في العين ([49]).
ـ وكذلك ـ أيضاً ـ تفسير معنى اللفظ وبيانه بذكر ضده ، وذلك مثل قوله : “والجعد: هو المتكسر, ضد السبوطة ” ([50]) .
ـ وكذلك ـ أيضاً ـ تفسير معنى اللفظ وبيانه بعبارة مقاربة ، وذلك مثل قوله:
(قَاعِدًا عَلَى أُسْكُفَّةِ الْمَشْرُبَةِ) “الأُسْكُفّة” بضمّ الهمزة والكاف، وتشديد الفاء: هي عَتَبة الباب السفلى ([51]) .
الاتجاه الثاني : هو تحرير معنى اللفظ ، وقد اشتمل هذا الاتجاه ـ أيضاً ـ على أساليب متنوعة منها :
ـ تحرير معنى اللفظ بتحديده في اللغة فقط ، وذلك مثل قوله : ” الاستنباط في اللغة: الاستخراج، وهو يدلّ على الاجتهاد، إذا عُدِم النصّ، والإجماع([52]).
ـ أو تحرير معنى اللفظ بتحديده في الاصطلاح فقط ، وذلك مثل قوله : العاصب في الاصطلاح من له سهم مقدَّر من المُجْمَع على توريثهم، ويرث كلُّ المال إذا انفرد، ويرث ما فضل بعد الفروض بالتعصيب ” ([53]) .
ـ وكذلك ـ أيضاً ـ تحرير معنى اللفظ بتحديده في اللغة والاصطلاح معاً ، فمن ذلك قوله : ” الحق لغة: الشيء الثابت, ويطلق شرعًا على ما ثبت به الحكم” ([54]) .
ـ وقد شرح الإمام الإتيوبي الولوي ـ أيضاً ـ بعض الألفاظ بالتفصيل ، وذلك عن طريق تحرير معنى اللفظ بتفصيله ، فيظهر هذا جليا من خلال قوله : “(فِي الْمَشْرُبَةِ) بفتح الراء، وضمّها بمعنى الْغُرفة الْعُلّيّة، وقال ابن قتيبة: هي كالصّفّة بين يدي الْغُرفة، وقال الداوديّ: هي الغرفة الصغيرة، وقال ابن بطّال: الْمشربة: الْخِزانة التي يكون فيها طعامه وشرابه، وقيل لها مشربة فيما أرى لأنهم كانوا يخزُنون فيها شرابهم ، وذكر في “مجمع البحرين” أن المشربة بمعنى الْخِزانة مفتوحة الراء فقط، وأما بمعنى الغرفة، فتفتح راؤها، وتضمّ “([55]).
ـ كما أنه قد كشف عن معاني الألفاظ في أحيان أخرى بتحريره لمعنى اللفظ بتقيد معناه، من ذلك قوله: والقسط عَقّارٌ معروفٌ في الأدوية طيّب الريح، تبخّر به النساء والأطفال “([56]).
الرَّهْط: ما دون عشرةٍ من الرجال، ليس فيهم امرأة، وسكون الهاء أفصح من فتحها، وهو جمع لا واحد له من لفظه([57]).
إذاً فقد كان الإمام الإتيوبي الولوي من العلماء المدققين الذين كان لهم الدور البارز في الكشف عن معاني الألفاظ من خلال طرق وأساليب متنوعة كل لفظ على حسب ما يقتضيه من توضيح ، وما يتفق معه من هذه الأساليب ما بين الكشف عن المعنى بالتفسير الموجز ، أو التحرير المفصل ، فكل هذه الأساليب والطرق المتنوعة غرضها الأول هو كشف وإزالة الغموض عن الألفاظ وإثبات وجه الارتباط الوثيق بين دلالات الألفاظ ، وما يترتب عليها من أحكام فقهية وشرعية .
ـ وكذلك إشارة الإمام الإتيوبي الولوي وترسيخه لشرط من شروط تحقق الاشتقاق ، ويظهر ذلك عند تعرضه للحديث الشريف, وهو قوله : – صلى الله عليه وسلم – (“لَوْ أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ رَبِيبَتِي) أي: بنت زوجتي، مشتقّةٌ من الربّ، وهو الإصلاح؛ لأنه يقوم بأمرها، وقيل: من التربية، وهو غلطٌ فاحشٌ، فإن من شرط الاشتقاق الاتّفاق في الحروف الأصليّة، ولام الكلمة، وهو الحرف الأخير مختلف، فإن آخر “ربّ” باء موحّدة، وفي آخر “ربي” ياء مثنّاة من تحتُ([58]) .
ـ كما أنَّه اعتنى بشتى الجوانب الدلالية المختلفة كاشفًا عن علّة التسمية في الأسماء ، والتأصيل, كما أنه كان صرِّح بلفظ المشترك والتضاد ، كما كان يشير إلى الترادف أحيانًا بقوله وهو بمعنى ، كما أنه أشار إلى الألفاظ ذات الدلالة العامة ، والخاصة ، كما أنه عمل على إظهار الفروق الدلالية الدقيقة بين الألفاظ ، كما أنه لم يغفل الإشارة والتنبيه على تطور دلالات الألفاظ بكل جوانبه, كما أنه عمل على إظهار الفروق الدلالية الدقيقة بين الألفاظ, كما أنه أشار إلى المعرب مع ذكر أصله ولغته، فبمعنى أدق أنَّ الإمام الأتيوبي الولوي لم يترك جانباً من الجوانب الدلالية إلا وحلق في سمائه ، وأفصح عن أحواله ، وهذا سيظهر لنا جلياً ـ إن شاء الله ـ في المستوى الدلالي .
خامساً : تنوع أسلوب الإمام الإتيوبي الولوي في الاستشهاد ما بين القرآن الكريم والقراءات القرآنية ، والأحاديث النبوية ، والشواهد الشعرية ، وأقوال العرب وأشعارهم ([59]) .
سادساً : اهتمام الإمام الإتيوبي الولوي بضبط الألفاظ والمفردات :
لقد عني الإمام الإتيوبي الولوي ـ رحمه الله ـ بالضبط عناية بالغة ، وذلك خشية اللبس والخلط الذي يقع بين الحروف المتشابهة في الرسم ، فكان منهجه في ضبط الألفاظ يتمثل في عدة طرق ، وهي :
أ ـ الضبط بالعبارة :
وهو أن يذكر نوع حركة الحرف لفظاً ، كقوله : “فَدَخَلْتُ، فَإِذَا أَنَا بِرَبَاحٍ) بفتح الراء، وتخفيف الموحّدة (غُلَامِ رَسُولِ اللهِ – صلى الله عليه وسلم -) “([60]).
وقوله : “ (يَرْقَى) بفتح أوله، وثالث، مضارع رَقِي، كرضِيَ يَرْضَى؛ أي: يصعد عليه ” ([61]) .
ب ـ الضبط بالمثال :
وذلك بأن يذكر اللفظ ، ثم يضبطه بذكره كلمة أخرى مشهورة مشتركة معها في الضبط ، فمن ذلك قول الإمام الأتيوبي الولوي: (عَنْ بَيْعِ الثمَرِ) – بفتحتين -، والثَّمَرَةُ مثله، فالأول مذكّرٌ، ويُجمع على ثِمار، مثلُ جَبَل وجِبال، ثم يُجمع الثمارُ على ثُمُر مثلُ كتاب وكُتُب، ثم يُجمع على أثمار، مثلُ عُنُق وأَعناق، والثاني مؤنّث، والجمع ثَمَرَات، مثلُ قَصَبَة وقَصَبَات، ([62]) .
ج ـ الضبط بالوزن الصرفي :
ويكون ذلك بذكر الوزن الصرفي للفظ ، فمن ذلك قول الإمام الإتيوبي الولوي: القَصعةِ، وهو الثَّريدُ، والثَّريدةُ، والثُّرْدَةُ، كما في “الأَساس”؛ كاتَّرَدَه، واثَّردَه، بالتاءِ المثنّاة الفوقيّة، والثاءِ المثلّثَة، على افْتَعَله؛ أي: بتشديد التاءِ، والثَّاءِ؛ أي: اتّخذَه، كان في أَصْله اثْتَرده، على افتَعَل، فلما اجتمَعَ حَرفانِ مَخْرجاهما مُتقارِبانِ، في كلمةٍ واحدةٍ، وَجَبَ الإِدغام، إِلّا أَن الثّاءَ لمّا كانت مهموسةً، والتاء مجهورة، لم يَصِحَّ ذلك، فأَبدَلُوا من الأَول تاءً، فأَدغموه في مثله([63]) .
د ـ الضبط بالإعجام والإهمال :
ويكون ذلك في الحروف المتشابهة ، ولا يفرق بينهما إلا بالنقط كالصاد والضاد، والجيم والحاء والخاء، والتاء والثاء، والدال والذال، والعين والغين، والفاء والقاف، وغيرهم .
ـ وذلك كقول الإمام الإتيوبي الولوي: وقوله: (حَتَّى تُشْقِحَ) – بضم أوله، من الإشقاح رباعيًّا، يقال: أشقح ثمر النخل إشقاحًا: إذا احمرّ، أو اصفَرّ، والاسم: الشُّقْحُ – بضم المعجمة، وسكون القاف، بعدها مهملة – وقد سبق في الرواية الماضية بلفظ: “حتى تُشْقِه”، بإبدال الحاء هاءً؛ لقربها منها ([64]) .
وقوله :” (الْخِلْطُ) بكسر الخاء المعجمة، وسكون اللام، آخره طاء مهملة: هو المختلط من أنواع شتى ([65]) .
سابعاً : عنايته باللهجات العربية :
تميز الإمام الإتيوبي الولوي ـ رحمه الله ـ بثقافته الواسعة، وتبحره في شتى العلوم ، مما انعكس على معرفته باللهجات واللغات ، فكان للهجات أثر واضح وملموس عند الإمام الأتيوبي الولوي في كتابه، وكان منهجه في عرض اللهجات قد جاء على صورتين ،
هما : –
أ ـ أنه كان يذكر اللفظ واللغة الواردة فيه ويعزوها إلى الناطقين بها ، وهو قليل بالنسبة للصورة الثانية ، فكان مما نسب فيه اللهجة لأصحابها ما يلي :
قوله: “السَّلَم” -بفتحتين-: كالسَّلَف وزنًا ومعنًى، وذكر الماوردي: أن السلف لغةُ أهل العراق، والسَّلَم لغة أهل الحجاز. ([66]) .
وقوله : “ “فبرأ” -بفتح الراء، والهمز، بوزن قرأ- وهي لغة
أهل الحجاز، وغيرُهم يقولها بكسر الراء، بوزن عَلِم، ([67]) .
ب ـ الصورة الثانية : أنه كان يذكر اللفظ واللغة الواردة فيه دون عزو منه لتلك اللهجة ، وهذا هو الأكثر والسمة الغالبة في الكتاب ، كما أنه كان يُعَبِّرُ عن ذلك بقوله : وهو لغة أو لغة قوم ، أو لغتان ، أو فيه لغات .
ـ كقوله : الحلوى، والحلواء مقصورًا وممدودًا لغتان”([68]) .
ـ وقوله : ” وفي الوَرْقِ ثلاث لغات حكاهنَّ الفراء: وَرِقٌ ووِرْقٌ ووَرْقٌ. ورجلٌ وَرَّاقٌ، وهو الذي يُوَرِّقُ ويكتب. ووَرَّاقٌ أيضًا([69]) .
ـ وقوله: (بِإصْبَعَيْهِ) وفي بعض النسخ: “بإصبعه” بالإفراد، وهي بكسر الهمزة، وفتح الموحّدة أفصح لغاتها، وهي عشرة: تثليث الهمزة، مع تثليث الموحّدة، والعاشرة: أُصبوع، بوزن أُسبوع. ([70]) .
ثامناً : إيراد سبب ورود بعض الأحاديث ـ في بعض الأحيان ـ إن كان للحديث سبب ورود ([71]) .
تاسعاً : تنبه الإمام الإتيوبي الولوي على الألفاظ المعربة ، وذلك بعدم الخلط بين الألفاظ العربية الأصل والمعربة من اللغات الأخرى ، فكان كثيراً ما ينبه على اللفظ المعرب وأصله الذي عرب منه ، والبلد الأصلية له ، وذلك مثل قوله: (وَالاسْتَبْرَقِ) بكسر الهمزة، هي – كما في “المصباح” – غَليظ الديباج، فارسيّ مُعَرَّب. وقال ابن الأثير – رحمه الله -: قد تكرر ذكر الإستبرق في الحديث، وهو ما غَلُظ من الحرير، والإِبْرَيْسَمِ، وهي لفظة أعجميّة، معرَّبَةٌ، أصلها اسْتَبْرَه، وقد ذكرها الجوهريّ في الباء من القاف، على أن الهمزة، والسين، والتاء زوائد، وأعاد ذِكرها في السين من الراء، وذكرها الأزهريّ في خُماسيّ القاف، على أن همزتها وحدها زائدة، وقال: أصلها بالفارسية: اسْتَفرَه ([72])“
وقوله: (الديباج ) بكسر الدال المهملة ، فارسي معرب… أبدلوا الباء ياء, كما في قيراط, ودينار ([73]).
عاشراً : اهتمام الإمام الإتيوبي الولوي بكثير من العلوم والفنون المختلفة ، والتي تظهر من خلال ما يلي :
أ- إشارته إلى الحدود الجغرافية الفاصلة بين البلدان ([74]) .
ب- درايتهُ بعلم التاريخ والوقائع التاريخية والجاهلية ([75]).
ج- إلمامه بالسيرة النبوية المطهرة ، ومناقب الصحابة والتابعين([76]) .
د- معرفته بأسماء الملوك في العصور السابقة وألقابهم ([77]) .
هذه هي أهم الملامح التي اتسم بها منهج الإمام الأتيوبي الولوي في كتابه ” وهي محل الدراسة.
مصادر الكتاب وموارده :
حرص الإمام الإتيوبي الولوي ـ رحمه الله ـ على إزالة الستار والغموض عن أحاديث الأحكام ودلالاتها ، وأوجه اختلاف الأئمة في الأحكام ، والكشف عن الأعلام وأحوال الرجال ؛ فلكي يصل الإمام الإتيوبي الولوي إلى غايته وهدفه ، والشرح الأمثل ، فقد استعان في شرحه بالكثير من كتب العلماء والمؤلفات في شتى التخصصات والعلوم ، فاستقى مادة كتابه من مصادر عديدة ومتنوعة ، نذكر منها ما يلي :
أولاً : كتب التخريج والأحكام :
-
” صحيح البخاري ” ([78]) .
-
” مسند الإمام أحمد بن حنبل ” ([79]) .
-
” موطأ مالك بن أنس ” ([80]) .
-
” سنن أبي داود ” ([81]) .
-
” سنن النسائي ( الصغرى والكبرى ” ([82]) .
-
” سنن الترمذي ” ([83]) .
-
” سنن ابن ماجة ” ([84]) .
-
” الجمع بين الصحيحين ” لعبد الحق الإشبيلي ([85]) .
-
الترغيب والترهيب ” للمنذري ([86]).
ثانياً : شروح الحديث :
-
في شرح البخاري ” لابن بطال ([87]).
-
” شرح مسلم ” للنووي ([88]) .
-
” كشف المشكل ” لابن الجوزي ([89]) .
-
” شرح عمدة الأحكام ” لابن دقيق العيد ([90]) .
ثالثاً : كتب الفقه :
رابعاً : كتب اللغة وغريب الحديث :
-
” العين ” للخليل بن احمد الفراهيدي ([93]) .
-
” المطالع ” لابن قرقول ([94]) .
-
” النهاية في غريب الحديث ” لابن الأثير ([95]) .
-
” مشارق الأنوار على صحاح الآثار ” للقاضي عياض ([96]) .
-
” تهذيب اللغة ” للأزهري ([97]) .
-
” مقاييس اللغة ” لابن فارس ([98]) .
-
” غريب الحديث ” لأبي عبيد ([99]) .
-
” الصحاح ” للجوهري ([100]) .
خامساً : كتب التفاسير :
سادساً : كتب الأماكن والبلدان :
-
” معجم البلدان ” لياقوت الحموي ([103]) .
سابعاً : التراجم والتاريخ :
-
” تهذيب الأسماء واللغات ” للنووي ([104])