«نداء الريان في فقه الصوم وفضل رمضان» (1/ 27):
«فضائل الصوم
أَنْعِم بالصوم عبادة بها رفع الدرجات، وتكفير الخطيئات، وكسر الشهوات وتكثير الصدقات، وتوفير الطاعات، وشكر عالم الخفيات، والانزجار عن خواطر المعاصي والمخالفات، والبعد عن النار سمومها واللفحات، وقرع أبواب الجنات، وكم للصوم من فضائل وفضائل.. وإليك طرف منها:
الفضيلة الأولى: الصائمون هم السائحون
قال تعالى: (التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله وبشر المؤمنين) [التوبة: 112] .
قال ابن جرير: أمَّا قوله “السائحون” فإنهم الصائمون.
وهو قول أبي هريرة، وابن عباس، وسعيد بن جبير، وعبد الرحمن، ومجاهد، والحسن، والضحاك، وعطاء.
قالت عائشة: سياحة هذه الأمة: الصيام.
وقال ابن عباس: كل ما ذكر الله في القرآن السياحة: هم الصائمون.
وقال أبو عمرو العبدي: الذين يديمون الصيام من المؤمنين.
وقال الضحاك: كل شيء في القرآن (السائحون) فإنه الصائمون.
وقال ابن عيينة: “إذا ترك الطعام والشراب والنساء فهو السائح” (1) .
* قال تعالى: (عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجاً خيراً منكن مسلمات مؤمنات قانتات تائبات عابدات سائحات ثيبات وأبكاراً) [التحريم: 5] .
“قال ابن عباس: سائحات: صائمات.
وهو قول قتادة والضحاك.
«وكان بعض أهل العربية يقول: نرى أن الصائم إنما سمي سائحاً، لأن السائح لا زاد معه، وإنما يأكل حيث يجد الطعام فكأنه أخذ من ذلك” (1) .
الفضيلة الثانية: الصوم لا مثل له
* عن أبي أمامة، قال: أنشأ رسول الله صلى الله عليه وسلم جيشاً، فأتيته، فقلت: يا رسول الله، ادع الله لي بالشهادة، قال: “اللَهمَّ سَلمهم وغَنِّمهم” فغزونا، فسلمنا وغنمنا، حتى ذكر ذلك ثلاث مرات، قال: ثم أتيته، فقلت: يا رسول الله، إني أتيتك تترى ثلاث مرات، أسألك أن تدعو لي بالشهادة، فقلت: “اللَّهمَّ سلمهم وغنمهم”، فسلمنا وغنمنا يا رسول الله، فمرني بعمل أدخل به الجنة، فقال: “عليك بالصوم، فإنه لا مثل له”.
قال: فكان أبو أمامة لا يرى في بيته الدخان نهاراً إلا إذا نزل بهم ضيف، فإذا رأوا الدخان، عرفوا أنه قد اعتراهم ضيف” (2) .
* وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله مرني بعمل، قال: “عليك بالصوم، فإنه لا عدل له”.
قلت: يا رسول الله مرني بعمل، قال: “عليك بالصوم؛ فإنه لا عدل له” (3) .
وللحاكم وصححه، وفي رواية للنسائي قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله، مرني بأمر ينفعني الله به، قال: “عليك بالصيام؛ فإنه لا مثل له”
الفضيلة الثالثة
إضافته لله تعالى تشريفاً لقدره وتعريفاً بعظيم فخره
* عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “قال الله عز وجل: كل
«نداء الريان في فقه الصوم وفضل رمضان» (1/ 29):
«عمل ابن آدم له، إلا الصوم؛ فإنه لي وأنا أجزي به، الصيام جُنَّة فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفُث ولا يصخب، فإنْ سابَّه أحد أو قاتله فليقل: إني صائم، إني صائم، والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، للصائم فرحتان يفرحهما؛ إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقي ربه فرح بصومه” (1) .
وفي رواية للبخاري: “يترك طعامه وشرابه من أجلي، الصيام لي، وأنا أجزي به، والحسنة بعشر أمثالها”.
* الرواية الثانية:
قال صلى الله عليه وسلم: “كل عمل ابن آدم يضاعف، الحسنة بعشر أمثالها، إلى سبعمائة ضعف، قال الله تعالى: إلا الصوم؛ فإنه لي وأنا أجزي به، يدع شهوته وطعامه من أجلي، وللصائم فرحتان: فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه، ولخلوف فم الصائم عند الله أطيب من ريح المسك” (2) .
* وفي أخرى له أيضاً ولابن خزيمة: “وإذا لقي الله عز وجل فجزاه فرح….” (3) الحديث.
* وعند الترمذي. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن ربكم يقول: كل حسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، والصوم لي، وأنا أجزي به، والصوم جنة من النار، ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، وإنْ جَهِل على أحدكم جاهل وهو صائم فليقل: إني صائم، إني صائم (4) .
* وعند ابن خزيمة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “قال الله: كل عمل ابن آدم له إلا الصيام، فهو لي، وأنا أجزي به، الصيام جُنة، والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله يوم القيامة من ريح المسك، للصائم فرحتان: إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقي ربه فرح بصومه” (5) .
«قال: ” كل عمل ابن آدم له حسنة بعشر أمثالها، إلى سبعمائة ضعف، قال الله: إلا الصيام، فهو لي وأنا أجزي به، يدع الطعام من أجلي يدع الشراب من أجلي ويدع لذته من أجلي، ويدع زوجته من أجلى، ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، وللصائم فرحتان: فرحة حين يفطر، وفرحة حين يلقى ربه”.
الصيام لي:
قال ابن عبد البر: كفى بقوله: “الصوم لي” فضلاً للصيام على سائر العبادات وقد اختلف العلماء في المراد بقوله تعالى: “الصيام لي وأنا أجزي به” مع أن الأعمال كلها له وهو الذي يجزي بها على أقوال:-
أحدها: أن الصوم لا يقع فيه الرياء كما يقع في غيره.
قال أبو عبيد في غريبه: قد علمنا أن أعمال البر كلها لله وهو الذي يجزي بها، فنرى والله أعلم أنه إنما خص الصيام لأنه ليس يظهر من ابن آدم بفعله وإنما هو شيء في القلب وذلك لأن الأعمال لا تكون إلا بالحركات، إلا الصوم فإنما هو بالنية التي تخفى على الناس، وهذا وجه الحديث عندي”.
قال القرطبي: “لما كانت الأعمال يدخلها الرياء، والصوم لا يَطّلع عليه بمجرد فعله إلا الله، فأضافه الله إلى نفسه، ولهذا قال في الحديث: “يدع شهوته من أجلي”.
وعند مالك يترك طعامه وشرابه وشهوته من أجلي، فالصيام لي بزيادة الفاء وهي للسببية، أي سبب كونه لي أنه يترك شهوته لأجلي.
وقال ابن الجوزي: جميع العبادات تظهر بفعلها، وقلَّ أن يسلم ما يظهر من شوب، بخلاف الصوم.
وارتضى هذا الجواب المازري وقرره القرطبي بأن أعمال بني آدم لمَّا كانت يمكن دخول الرياء فيها أضيفت إليهم بخلاف الصوم، فإن حال الممسك شبعاً مثل حال الممسك تقرباً، يعني في الصورة الظاهرة.
ومعنى: “لا رياء في الصوم” أنه لا يدخله الرياء بفعله، وإن كان قد يدخله الرياء»
_________
(1) رواه البخاري، واللفظ له، ومسلم، وعند أحمد “وإذا لقي الله فجزاه فرح” وسنده صحيح على شرط مسلم.
(2) رواه مسلم.
(3) رواه مالك وأبو داود والنسائي بمعناه مع اختلاف بينهم في الألفاظ وهو صحيح.
(4) حسن: حسنه الألباني في “صحيح الترغيب والترهيب” (1/408) .
(5) وهي عند أحمد، وكذا البخاري وهي هنا الرواية الأولى، لكن ليس فيها قوله “يوم القيامة” وهو عند النسائي في
“الكبرى”.»
_________
(1) “تفسير الطبري” (11/164-165) .
(2) إسناده صحيح على شرط مسلم: رجاله ثقات رجال الشيخين غير رجاء بن حيوة فمن رجال مسلم.
رواه ابن حبان في “صحيحه” واللفظ له، وأحمد، والنسائي، والطبراني، وابن أبي شيبة، وعبد الرزاق.
(3) صحيح: رواه النسائي، وابن خزيمة في “صحيحه” (هكذا بالتكرار وبدونه، وصححه الألباني في “صحيح الترغيب والترهيب” (11/413) .»
_________
(1) “تفسير الطبري” (6/36-38) .»