أحكام الأسير الكافر في الإسلام
(دروس من السيرة النبوية)
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام علي رسول الله صلي الله عليه وسلم وبعد
فنظرا للأحداث الجارية والحرب القائمة بين الكيان الصهيوني الغاشم وأهل غزة الحبيبة وما يدور فيها من أحداث عظام تساءل كثير من الأخوة عن أحكام الأسير في الإسلام وكيفية التعامل معه ،فتوكلت علي الله تعالي وبدأت في هذا البحث المتواضع وراعية فيه الاختصار والشمول والله أسأل القبول والسداد
تعريف الأسير لغة واصطلاحا
الأسير لغةً: من الأسر وهو الشد بالقيد مشتق من الإسار، وهو القيد الذي يشد به المحمل فسمي أسيرا([1])
قال ابن منظور: والإِسارُ: الْقَيْدُ ويكون حَبْلَ الكِتافِ، ومنه سمي الأَسير، وكانوا يشدّونه بالقِدِّ فسُمي كُلُّ أَخِيذٍ أَسِيراً وإن لم يشدّ به. يقال:أَسَرْت الرجلَ أَسْراً وإساراً، فهو أَسير ومأْسور، والجمع أَسْرى وأُسارى. وتقول: اسْتَأْسِرْ أَي كن أَسيراً لي. والأَسيرُ: الأَخِيذُ، وأَصله من ذلك. وكلُّ محبوس في قدٍّ أَو سِجْنٍ: أَسيرٌ. ([2])
قال تعالى: {نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلاً} (الإنسان 28) أي شددنا ضبطهم وقدّرنا أمور معاشهم في الحياة الدنيويّة، فهم تحت سلطاننا وجبروتنا لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضرّاً إلا ما شاء الله عزّ وجلّ فالأسر ليس بمعنى الخلق، بل بمعنى التقدير والضّبط والجعل تحت الأسر والحكم، فهو يتحقق بمعنى ما يؤسر ويضبط، وبمناسبة الضبط يطلق الأسر على جميع موارد الضّبط والحكم الدقيق ([3])
والأسير اصطلاحاً: هم الرجال المقاتلون من الكفار إذا ظفر المسلمون بهم أحياء (٣) .
قال الطبري: “هو الحربي من أهل دار الحرب يؤخذ قهرًا بالغلبة، أو من أهل القِبلة يؤخذ فيحبس بحق([4]). وقيل أيضاً: هو من يظفر به المسلمون من الحربيين إذا دخلوا دار الإسلام بغير أمان ([5])
من هو الأسير المقصود في سورة الإنسان ؟
قد أختلف العلماء في معني الأسير الذي جاء في الآية { وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9)} [الإنسان: 8، 9]
الي أربعة أقوال
1_ قالوا أنه المسجون من أهل القبلة، قاله مجاهد، وعطاء وسعيد بن جبير.
2: أنه الأسير المشرك، قاله الحسن، وقتادة.
3: أنها المرأة، قاله أبو حمزة الثمالي.
4_ : أنه العبد، ذكره الماورديّ.([6])
والراجح والله أعلم أن المعني عام في كل أسير فكل من كان تحت سلطان الإنسان وتحكم في أمره فهو أسير سواء كان عبدا أو أمة أو خادم أو أسير حرب أو زوجة فالآية تحمل علي مفهومها اللغوي .
وهذا ما يؤيده وصية رسول الله r في النساء في حجة الوداع ألا واستوصوا بالنساء خيرا ، فإنما هن عوان عندكم : صحيح الترمذي
“ومعني هن عوان عندكم”، العوان جمع عانية، أي: أسيرة، وشبههن بذلك؛ لأن الرجال يتحكمون فيهن، وهن يخضعن لسلطان الرجال
والذي يهمنا هنا في هذا البحث هو أسير الحرب
الحكمة من مشروعية الأسر في الإسلام
و الحكمة من مشروعية الأسر هي كسر شوكة العدو ودفع شرِّه وإبعاده عن ساحة القتال واتقاء شره وأذاه ، بالإضافة الي المنافع المرجوة من اسرة كإطلاق أسرى المسلمين أو تحصيل منفعة ككسب مال أو تحصيل خبرة منه أو جلب منفعة يمكن للمسلمين الاستفادة منها .
كما جاء في مسند الإمام أحمد عن ابن عباس كان ناس من الأسرى يوم بدر لم يكن لهم فداء فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فداءهم أن يعلموا أولاد الأنصار الكتابة. قال: فجاء يوماً غلام يبكي إلى أبيه فقال: ما شأنك؟ قال ضربني معلمي)
وكان زيد بن ثابت رضي الله عنه ممن تعلم الكتابة والقراءة من الأسرى.
وقد تباين فداء الأسرى، فمن كان ذا مال فداؤه أربعة آلاف درهم، وممن أخذ منه أربعة آلاف درهم أبو وداعة، وأخذوا من العباس مائة أوقية، ومن عقيل بن أبي طالب ثمانين أوقية، دفعها عنه العباس، وأخذوا من آخرين أربعين أوقية فقط. وأطلق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سراح عمرو بن أبي سفيان مقابل أن يطلقوا سراح سعد بن النعمان بن أكال، الذي أسره أبو سفيان وهو يعتمر، ومن لم يكن لديهم مقدرة على الفداء وكانوا يعرفون الكتابة جعل فداءهم أن يعلموا أولاد الأنصار الكتابة([7])
مشروعية الأسر من القرآن والسنة
جاء ذكر الأسير في القران الكريم في عدة مواضع نذكر منها
قوله تعالى: ﴿فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ (التوبة 5)
والأخذ المقصود به الأسر.
قال تعالى ﴿وإن يأتوكم أسارى تفادوهم وهو محرم عليكم إخراجهم ﴾(البقرة 85)
قال تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ} سورة الأنفال – الآية 67
قال الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ الأنفال: 70
وتفسير هذه الأية
قال الطبري: “يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ ﴾ قل لمن في يديك وفي يدي أصحابك من أسرى المشركين الذين أخذ منهم من الفداء ما أخذ: ﴿ إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا ﴾ يقول: إن يعلم الله في قلوبكم إسلامًا ﴿ يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ ﴾ من الفداء، ﴿ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ﴾ يقول: ويصفح لكم من عقوبة جرمكم الذي اجترمتموه بقتالكم نبيَّ الله وأصحابه وكفركم بالله، ﴿ وَاللَّهُ غَفُورٌ ﴾ لذنوب عباده إذا تابوا، ﴿ رَحِيمٌ ﴾ بهم أن يعاقبهم عليها بعد التوبة”([8]).
وقال تعالى: {فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ} (محمد الآية 4) .
ومعني فشدوا الوثاق المراد هو الأسر فمن لم يقتل من المقاتلين الكفار في الحرب أُخذ أسيراً حتى تتحقق الغلبة والانتصار على الأعداء ([9]) .
ثانياً: دليل مشروعية الأسر من السنة:
جاء في سيرة النبي r في مواطن عدة ما يثبت الأسر ويرخصه فقد أُسر رسول الله r مجموعة من المشركين في غزوة بدر وتم فداؤهم بأربعين أوقية إلا العباس كان فداؤه مائة أوقية
والأوقية أربعون درهماً من الفضة ما تعادل 119 جرام، وأوقية الذهب تساوي 29.75 جم.
ولقد أسر رسول الله r بني قريظة عندما غدروا بالمسلمين وتم قتلهم
وهجم علي الجيش المسلم في صلح الحديبية ثمانون مشركا يريدون قتل الرسول r ، فأسرَهم ثمَّ منَّ عليه وأطلق صراحهم .
كما جاء في صحيح مسلم من حديث أنس: أنه صلى الله عليه وسلم أخذ الثمانين النفر الذين هبطوا عليه وأصحابه من جبال التنعيم عند صلاة الفجر ليقتلوهم، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم أعتقهم، فأنزل الله عز وجل {وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة} [الفتح: ٢٤ (([10])
يقول الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: والذين بايعوا بيعة الرضوان: (وهو الذي كف أيديهم عنكم) يعني أن الله كف أيدي المشركين الذين كانوا خرجوا على عسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم، بالحديبية يلتمسون غرتهم ليصيبوا منهم، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتى بهم أسرى، فخلى عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن عليهم ولم يقتلهم فقال الله للمؤمنين: وهو الذي كف أيدي هؤلاء المشركين عنكم، وأيديكم عنهم ببطن مكة، من بعد أن أظفركم عليهم.([11])
وكان يوجد أسير محبوس في حجرة السيدة عائشة وهرب منها فجاء النبي (r ) فسألها عنه
كما جاء عن ذكوان عن عائشة ان النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها بأسير وعندها نسوة فلهينها عنه فذهب الاسير فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا عائشة: أين الأسير؟ قالت: نسوة كن عندي فلهينني عنه، فذهب فقال: رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قطع الله يدك – وخرج فأرسل في اثره فجيء به فدخل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ واذا عائشة ـ رضي الله عنها ـ قد اخرجت يديها فقال مالك قالت يا رسول الله انك دعوت علي بقطع يدي واني معلقة يدي انتظر من يقطعها، قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أجننت؟ ثم رفع يديه وقال: اللهم من كنت دعوت عليه فاجعله له كفارة وطهورا ([12])
وفي رواية عن ذكوان أيضا مولى عائشة عن عائشة قالت: دخل علي النبي صلى الله عليه وسلم بأسير، فلهوت عنه فذهب، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((ما فعل الأسير؟)) قالت: لهوت عنه مع النسوة، فخرج فقال: ((ما لك قطع الله يدك أو يديك)). فخرج فآذن به الناس فطلبوه فجاؤوا به فدخل علي وأنا أقلب يدي، فقال: ((ما لك، أجننت؟)). قلت: دعوت علي فأنا أقلب يدي أنظر أيهما يقطعان، فحمد الله وأثنى عليه ورفع يديه مدا وقال: ((اللهم إني بشر أغضب كما يغضب البشر فأيما مؤمن أو مؤمنة دعوت عليه فاجعله له زكاة وطهورا))([13])
وفي الصحيحين (اللَّهُمَّ إنَّما أنا بَشَرٌ، فأيُّما رَجُلٍ مِنَ المُسْلِمِينَ سَبَبْتُهُ، أوْ لَعَنْتُهُ، أوْ جَلَدْتُهُ، فاجْعَلْها له زَكاةً ورَحْمَةً. وفي روايةٍ: عَنِ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، مِثْلَهُ، إلَّا أنَّ فيه زَكاةً وأَجْرًا.([14])
وفي رواية أن الأسير كان عند السيدة حفصة رضي الله عنها
عن أنس بن مالك: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دفع إلى حفصة ابنة عمر رجلا، فقال: احتفظي به. قال: فغفلت حفصة، ومضى الرجل فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: يا حفصة، ما فعل الرجل؟ قالت: غفلت عنه يا رسول الله. فخرج، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قطع الله يدك)). فرفعت يديها هكذا، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما شأنك يا حفصة؟ فقالت: يا رسول الله قلت قبل لي كذا وكذا. فقال لها: ((صفي يديك فإني سألت الله عز وجل أيما إنسان من أمتي دعوت الله عز وجل عليه أن يجعلها له مغفرة)). ([15])
ودعاء النبي علي السيدة عائشة أو السيدة حفصة دعاء لهما وليس دعاء عليها لأن النبي r كان يقول
((اللهم إني بشر أغضب كما يغضب البشر فأيما مؤمن أو مؤمنة دعوت عليه فاجعله له زكاة وطهورا))
وهذا يثبته ويوضحه ما رواه مسلم من طريق أنس بن مالك قال: كانت عند أم سليم يتيمة فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم اليتيمة، فقال: آنت هيه، لقد كبرت، لا كبر سنك، فرجعت اليتيمة إلى أم سليم تبكي، فقالت أم سليم: ما لك يا بنية؟ قالت الجارية: دعا علي نبي الله صلى الله عليه وسلم أن لا يكبر سني، فالآن لا يكبر سني أبدا أو قالت قرني،([16]) فخرجت أم سليم مستعجلة تلوث خمارها حتى لقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما لك يا أم سليم؟ فقالت: يا نبي الله أدعوت على يتيمتي؟ قال: وما ذاك يا أم سليم؟ قالت: زعمت أنك دعوت أن لا يكبر سنها ولا يكبر قرنها! قال: فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: ((يا أم سليم أما تعلمين أن شرطي على ربي أنى اشترطت على ربي فقلت: إنما أنا بشر أرضى كما يرضى البشر وأغضب كما يغضب البشر فأيما أحد دعوت عليه من أمتي بدعوة ليس لها بأهل أن تجعلها له طهورا وزكاة وقربة يقربه بها منه يوم القيامة)).([17])
ومن مشروعة الأسر أيضا أن النبي r استشار الصحابة في أسارى بدر، فأشار عليه أبو بكر الصدِّيق رضي الله عنه أن يأخذ منهم فدية تكون لهم قوة على عدوِّهم ويُطلقهم؛ لعلَّ الله أن يهديهم إلى الإسلام، وقال عمر: لا والله ما أرى الذي رأى أبو بكر، ولكن أرى أن تُمكِّننا فنضرب أعناقهم؛ فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها، فهويَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر، ولم يهوَ ما قال عمر، فلما كان من الغد أقبل عمر، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يبكي هو وأبو بكر، فقال: يا رسول الله، مِن أي شيء تبكي أنت وصاحبك، فإن وجدت بكاءً بكيت، وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أبكي للذي عَرَض عليَّ أصحابك من أخذهم الفداء، لقد عُرض عليَّ عذابهم أدنى من هذه الشجرة))، وأنزل الله: ﴿ مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ ﴾ [الأنفال: 67
وغير ذلك الكثير من الأدلة وسوف تأتي أدلة كثيرة في خلال البحث
النساء و الأطفال والرهبان في الحرب و الأسر
للنساء والأطفال معاملة خاصة في الشريعة الاسلامية مبنية علي الرحمة بهم وحسن معاملتهم والسبب في ذلك ضعفهم وقلة حيلتهم في الغالب فلقد نهي الإسلام عن قتلهم والتعرض لهم
ولايعد الأطفال والشيوخ والنساء والرهبان والفلاحون ومُطلَق العجزة – من الأسرى؛ لأن لهم معاملة خاصة، إلا إذا اشتركوا في القتال، وأعانوا على المسلمين في الحرب.([18])
فإن شاركوا في حمل السلاح، أو التحريض على القتال، أو التجسس علي المسلمين، أو الإيقاع بالنساء المسلمات وانتهاك أعراضهن أو قتلهن أو اعتقالهن. أو دخلوا بلاد الإسلام محتلين لها غاصبين أرضها فيجري عليهم ما يجري علي المحارب
قال النووي -رحمه الله- في “شرحه على صحيح مسلم”: “أجمع العلماء على تحريم قتل النساء والصبيان إذا لم يقاتلوا”.
وجمهور العلماء من الحنفية والشافعية والحنابلة لا يجيزون أسر الرهبان أو فاقدي الأهلية* من المجانين والمعتوهين. وخالف في ذلك مالك والامامية حيث أجاز أسر المجانين وروي عن أبي حنيفة انه اجاز أسر الرهبان إلا ان السرخسي بيّن بان مراد أبي حنيفة هم الرهبان الذين يحرضون الناس على القتال ([19])
وقال الكاساني –في رحمه الله- “بدائع الصنائع”: ” وكذا لو حرَّض على القتال أو دلَّ على عورات المسلمين، أو كان الكفرة ينتفعون برأيه، أو كان مطاعًا، وإن كان امرأة أو صغيرًا, لوجود القتال من حيث المعنى”.
وهذا الكلام المقصود به إذا كانت الحروب خارج بلاد المسلمين وبعيدا عن أرضنا فلو جاء راهب وبنى في بلادنا صومعة وأغتصب مكانها عنوة وبقوة السلاح، وبدون إذن من المسلمين هدمت صومعته فوق رأسه ويعامل معاملة المحارب وهكذا يعامل كل من دخل بلادنا بدون إذن منا ومن أهل البلد نفسها ومن ولي الأمر فيها
وفي الحرب ضرب الرسولُ r أروعَ الأمثلة على الرحمة والعدل و الإنسانية؛ فكان في قتاله لا يَغدر ولا يَقتل امرأة أو شيخًا أو طفلا، ولا يَتبع مُدبرا، ولا يُجهز على جريح، ولا يُمثِل بقتيل، ولا يسيء إلى أسير، ولا يلطم وجها، ولا يتعرض لمسالم.
وقد أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه عندما أرسله في شعبان سنة 6 هـ إلى قبيلة كلب النصرانية الواقعة بدومة الجندل؛ فقال له: “اغزوا جميعًا في سبيل الله، فقاتلوا من كفر بالله، لا تَغُلُّوا، ولا تَغْدِرُوا، ولا تُمَثِّلُوا، ولا تَقْتُلُوا وَلِيدًا، فهذا عَهْدُ اللهِ وسيرة نبيّه فيكم”([20])
وعَنِ ابن عباس رضي الله عنهما قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا بَعَثَ جُيُوشَهُ قَالَ: “اخْرُجُوا بِسْمِ اللَّهِ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ لَا تَغْدِرُوا وَلَا تَغُلُّوا وَلَا تُمَثِّلُوا وَلَا تَقْتُلُوا الْوِلْدَانَ وَلَا أَصْحَابَ الصَّوَامِعِ ([21])
وعلي هذه السنة صار الصحابة الكرام ، فمن وصية الصحابي أبو بكر الصديق رضي الله عنه لجنود الإسلام قبل فتح بلاد الشام (12 هجرية)
قال: يا أيها الناس، قفوا أوصيكم بعشر فاحفظوها عنى: لا تخونوا ولا تغلوا، ولا تغدروا ولا تمثلوا، ولا تقتلوا طفلاً صغيراً، ولا شيخاً كبيراً ولا امرأة، ولا تعقروا نخلاً ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاةً ولا بقرة ولا بعيراً إلا لمآكلة، وسوف تمرون بأقوام قد فرغوا أنفسهم في الصوامع؛ فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له، وسوف تقدمون على قوم يأتونكم بآنية فيها ألوان الطعام، فإن أكلتم منها شيئاً بعد شئ فاذكروا اسم الله عليها. وتلقون أقواماً قد فحصوا أوساط رؤوسهم وتركوا حولها مثل العصائب، فاخفقوهم بالسيف خفقاً. اندفعوا باسم الله، أفناكم الله بالطعن والطاعون.([22])
نهي الرسول r عن قتل النساء والأطفال
كان الرسول صلى الله عليه وسلم ينهى عن قتل النساء والصبيان فقد روى مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابن عمر رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَأَى فِي بَعْضِ مَغَازِيهِ امْرَأَةً مَقْتُولَةً؛ فَأَنْكَرَ ذَلِكَ، وَنَهَى عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ([23])
َوعَنْ رَبَاحِ بْنِ رَبِيعٍ قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي غَزْوَةٍ، فَرَأَى النَّاسَ مُجْتَمِعِينَ عَلَى شَيْءٍ؛ فَبَعَثَ رَجُلاً فَقَالَ: انْظُرْ: عَلَامَ اجْتَمَعَ هَؤُلَاءِ؟ فَجَاءَ؛ فَقَالَ: عَلَى امْرَأَةٍ قَتِيلٍ؛ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: مَا كَانَتْ هَذِهِ لِتُقَاتِلَ. قَالَ: وَعَلَى الْمُقَدِّمَةِ خالد بن الوليد رضي الله عنه؛ فَبَعَثَ رَجُلاً فَقَالَ: “قُلْ لِخَالِدٍ: لَا يَقْتُلَنَّ امْرَأَةً وَلا عَسِيفًا([24]) والعسيف معناه الأجير
هذا هو الأصل فإن انعدمت القدرة على التمييز بينهم وبين غيرهم من المقاتلين جاز قتلهم من باب الضرورة فعَنِ الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ، قَالَ: (سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الذَّرَارِيِّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ؟ يُبَيَّتُونَ فَيُصِيبُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ وَذَرَارِيِّهِمْ؟، فَقَالَ: هُمْ مِنْهُمْ) أخرجه البخاري ومسلم.
قال الحافظ –رحمه الله- في “الفتح”: “ومعنى البيات المراد في الحديث: أن يُغار على الأعداء بالليل، بحيث لا يُميَّز بين أفرادهم”.
قال الخطابي _رحمه الله_ في “معالم السنن”: ” يريد أنهم منهم في حكم الدين وإباحة الدم، وفيه بيان أن قتلهم في البيات وفي الحرب إذا لم يتميزوا من آبائهم وإذا لم يتوصلوا إلى الكبار إلاّ بالإتيان عليهم جائز “.
قال ابن رشد –رحمه الله- في “بداية المجتهد” :واتفق عوام الفقهاء على جواز رمي الحصون بالمجانيق، سواء كان فيها نساء وذرية، أو لم يكن؛ لما جاء أن النبي – عليه الصلاة والسلام – نصب المنجنيق على أهل الطائف وأما إذا كان الحصن فيه أسارى من المسلمين وأطفال من المسلمين فقالت طائفة: يكف عن رميهم بالمنجنيق، وبه قال الأوزاعي. وقال الليث: ذلك جائز. ومعتمد من لم يجزه قوله تعالى: لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما [الفتح: ٢٥. وأما من أجاز ذلك فكأنه نظر إلى المصلحة.
فهذا هو مقدار النكاية التي يجوز أن تبلغ بهم في نفوسهم ورقابهم. ([25])
حكم تبديل الأسرى
يجوز تبديل الأسري رجال ونساء بين المسلمين فلقد أمر الإسلام بفك الأسير المسلم بأي طريقة مشروعة
فعن أَبي موسي رضي الله عنه قال: قالَ رسولُ اللهِ ﷺ: عُودُوا المَرِيضَ، وَأَطْعِمُوا الجَائعَ، وفَكُّوا العَاني ) رواه البخاري، والعاني هو الأسير
يري أبو يوسف ومحمد بن الحسن الشيباني جواز مفاداة الأسير المسلم بالكافر. وهو ما عليه الشافعية حيث قالوا تخليص المسلم أولى من قتل الكافر أو الانتفاع به “يعني استرقاقه” ([26])
وقد فعل رسول الله r هذا الأمر فقام بتبديل أسري من المشركين بأسري من المسلمين
وأطلق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سراح عمرو بن أبي سفيان مقابل أن يطلقوا سراح سعد بن النعمان بن أكال، الذي أسره أبو سفيان وهو يعتمر، ومن لم يكن لديهم مقدرة على الفداء([27])
و عن سلمة بن الأكوع قال : خرجنا مع أبي بكر، وأمره علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فغزونا فزارة فشننا الغارة، ثم نظرت إلى عنق من الناس فيه الذرية والنساء، فرميت بسهم فوقع بينهم وبين الجبل فقاموا، فجئت بهم إلى أبي بكر فيهم امرأة من فزارة، وعليها قشع من أدم معها بنت لها من أحسن العرب، فنفلني أبو بكر ابنتها فقدمت المدينة، فلقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لي: يا سلمة، هب لي المرأة. فقلت: والله لقد أعجبتني وما كشفت لها ثوبا، فسكت حتى إذا كان من الغد لقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم في السوق فقال: يا سلمة هب لي المرأة لله أبوك. فقلت: يا رسول الله والله ما كشفت لها ثوبا وهي لك، فبعث بها إلى أهل مكة وفي أيديهم أسرى ففاداهم بتلك المرأة (صحيح أبي داود) ([28])
وعن عمران بن الحصين أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّمَ فدى رجلينِ منَ المسلمينَ ، برجلٍ منَ المشرِكينَ: صحيح الترمذي الألباني
وفي الحديث: مشروعية مبادلة الأسرى إذا رأى الإمام في ذلك مصلحة للمسلمين.
روى ابن إسحاق أن نوفل بن عبدالله بن المغيرة كان اقتحم الخندق فتورَّط فقتل، فغُلب المسلمون على جسده، فعرَض المشركون على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عشرة آلاف درهم مقابل الحصول على جثته، فقال الرسول – صلى الله عليه وسلم -: ((لا حاجة لنا في جسده ولا بثمنه ([29])
جواز الشفاعة في الأسري
تجوز الشفاعة في الأسير الكافر حتي لو كانت الشفاعة من شخص كافر ،كانت له يد علي المسلمين سواء قدم للمسلمين منفعة أو دفع عن المسلمين مضرة أو رجونا نصرته وكسبه أو دفع شره وخبثه
فعن جبير بن مطعم قال قال رسول الله r : ((لو كان المطعم بن عدي حيًّا ثم كلمني في هؤلاء النتنى، لتركتهم له.)): صحيح البخاري
والنتنى جمع نتن، وسماهم نتنى؛ لرجسهم الحاصل من كفرهم كقوله -تعالى- (إنما المشركون نجس)
ومعني الحديث
لو كان المطعم بن عدي حيا وكلمني في أن أعفو عن هؤلاء النتنى من الأسرى المشركين في بدر؛ لتركتهم له، ولأطلقت سراحهم بغير فداء؛ إكراما له، وردا لجميله، ومكافأة له لما أحسن السعي في نقض الصحيفة التي كتبتها قريش، ولأنه صلى الله عليه وسلم لما رجع من الطائف لمكة، رجع في جواره، وكانت وفاة المطعم في صفر سنة اثنتين من الهجرة قبل بدر بنحو سبعة أشهر.
ويحتمل أنه أراد بذلك تطييب قلب ابنه جبير بن مطعم وتأليفه على الإسلام، مع ما في ذلك من التعريض بالتعظيم لشأن الرسول وتحقير حال هؤلاء الكفرة، من حيث إنه لا يبالي بهم وبتركهم لمشرك كانت له عنده يد. وفي الحديث: مشروعية المن على الأسارى، وإطلاقهم بغير فداء. وفيه: مشروعية تشفيع الشريف للمذنبين على سبيل تأليف قلبه. وفيه: بيان حسن المكافأة على ما تقدم من الجميل.([30])
قال ابن بطال : ودل على أن للإمام أن يمن على الأسارى بغير فداء خلافا لمن منع ([31])
يقول الشيخ بن باز رحمه الله
المطعم هو أبو جبير، وهو أخو طعيمة الذي سبق أنه قُتل في أسرى بدر، والمطعم كانت له يدٌ على النبيِّ ﷺ؛ حين رجع من الطائف دخل في جواره إلى مكة، فأمضته قريش، وقالوا: مثلك لا يُخفر. فكانت يدًا بيضاء للمُطعم؛ ولهذا قال النبيُّ ﷺ: لو كان حيًّا ثم كلَّمني في هؤلاء لتركتُهم له.
هذا فيه شرعية مجازاة مَن له عليك يد كريمة، وإظهار استحقاقه لذلك بعد وفاته ، وهذا من كرم الأخلاق: أن يُجازى المحسنون، وأن يُشكروا على إحسانهم، وأن تُذكر لهم هذه اليد الطيبة ولو بعد وفاتهم، من باب التَّشجيع على مكارم الأخلاق، حتى ولو كان فاعلها كافرًا، من باب التَّشجيع على مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال والنَّفع لمن يستحقّ النَّفع ،وفيه من الفوائد: أنَّ ولي الأمر له أن يعفو عن الأسرى ولو كانوا كثيرين إذا رأى المصلحةَ في ذلك، وقد عفا النبيُّ ﷺ عن أهل مكة وقال: أنتم الطُّلقاء.([32])
وذكر الإمام أحمد عن ابن عباس قال: كان ناس من الأسرى لم يكن لهم مال، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فداءهم أن يعلموا أولاد الأنصار الكتابة، وهذا يدل على جواز الفداء بالعمل كما يجوز بالمال.
وكان هديه أن من أسلم قبل الأَسرِ لم يُسترقَّ…”([33])
ومدح الله تعالي من يتصف بصفة العفو والصفح: ﴿ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ التغابن: 14]، وهكذا كان العفو هو الأولي؛ لأنه من صفات المصطفى صلى الله عليه وسلم،
عدم المجاملة والمحاباه في الأسير
كان ممن أسر في بدر العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه عم رسول الله صلى الله عليه وسلم مع المشركين من قريش، وعندما طلب النبي صلى الله عليه وسلم في الأسرى الفداء بالمال، حتي يستنقذ الأسير نفسه، وذهب مجموعة من الأنصار وطلبوا من الرسول r أن يترك فداء العباس ولا يأخذ منه شيء إكراما لرسول الله r
فرفض الرسول r ودفع العباس فداءه مائة أوقية ودفع عقيل بن أبي طالب ثمانين أوقية بدل من أربعين وتم التعامل معهم كغيرهم من الأسرى
عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رجالا من الأنصار استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: ائذن لنا، فلنترك لابن أختنا عباس فداءه، فقال: لا تدعون منه درهما.
صحيح البخاري
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رجالا من الأنصار أرادوا أن يتركوا فداء العباس إكراما للنبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: «ائذن لنا، فلنترك لابن أختنا عباس فداءه»، وقالوا: «لابن أختنا»؛ لأنهم أخوال أبيه عبد المطلب؛ لأن أم عبد المطلب هي سلمى بنت عمرو بن أحيحة، وهي من بني النجار، فلم يوافق رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك، وقال: «لا تدعون منه درهما»، يعني: لا تتركون من فدائه شيئا؛ لئلا يكون في الدين نوع محاباة،) ولقد زود الرسول r علي أقاربه الفدية من باب عدم المحاباة
فأمر النبي صلى الله عليه وسلم قال : أضعفوا الفداء على العباس وكلفه أن يفدي ابني أخويه عقيل بن أبي طالب ونوفل بن الحارث فأدى عنهما ثمانين أوقية ، وعن نفسه ثمانين أوقية وأخذ منه عشرون أوقية وقت الحرب
فكَانَ فِدَاء كُلّ وَاحِد أَرْبَعِينَ أُوقِيَّة , فَجَعَلَ النبي r عَلَى الْعَبَّاس مِائَة أُوقِيَّة , وَعَلَى عَقِيل بن أبي طالب ثَمَانِينَ , فَقَالَ لَهُ الْعَبَّاس : القرابة صَنَعْت هَذَا ؟ فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى : ( يَا أَيّهَا النَّبِيّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنْ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَم اللَّه فِي قُلُوبكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ ) الْآيَة , فَقَالَ الْعَبَّاس : وَدِدْت لَوْ كُنْت أَخَذْت مِنِّي أَضْعَافهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى : ( يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ ).([34])
قصة العباس في الأسر كما جاءت في السيرة ([35])
عن ابن إسحاق : بعثت قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في فداء أسراهم ، ففدى كل قوم أسيرهم بما رضوا . وقال العباس: يا رسول الله، إني قد كنت مسلما . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الله أعلم بإسلامك فإن يكن كما تقول فالله يجزيك بذلك فأما ظاهر أمرك فكان علينا فافد نفسك وابني أخويك نوفل بن الحارث بن عبد المطلب وعقيل بن أبي طالب وحليفك عتبة بن عمرو أخا بني الحارث بن فهر . وقال : ما ذاك عندي يا رسول الله . قال : فأين المال الذي دفنته أنت وأم الفضل فقلت لها إن أصبت في سفري هذا فهذا المال لبني الفضل وعبد الله وقثم ؟ فقال : يا رسول الله ، إني لأعلم أنك رسول الله ، إن هذا لشيء ما علمه غيري وغير أم الفضل ، فاحسب لي يا رسول الله ما أصبتم مني عشرين أوقية من مال كان معي . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا ، ذاك شيء أعطانا الله منك . ففدى نفسه وابني أخويه وحليفه ، وأنزل الله فيه : ياأيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى الآية . قال ابن إسحاق : وكان أكثر الأسارى فداء العباس بن عبد المطلب ، لأنه كان رجلا موسرا ، فافتدى نفسه بمائة أوقية من ذهب .
فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال : أضعفوا الفداء على العباس وكلفه أن يفدي ابني أخويه عقيل بن أبي طالب ونوفل بن الحارث فأدى عنهما ثمانين أوقية ، وعن نفسه ثمانين أوقية وأخذ منه عشرون أوقية وقت الحرب . وذلك أنه كان أحد العشرة الذين ضمنوا الإطعام لأهل بدر ، فبلغت النوبة إليه يوم بدر فاقتتلوا قبل أن يطعم ، وبقيت العشرون معه فأخذت منه وقت الحرب ، فأخذ منه يومئذ مائة أوقية وثمانون أوقية . فقال العباس للنبي صلى الله عليه وسلم : لقد تركتني ما حييت أسأل قريشا بكفي . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أين الذهب الذي تركته عند امرأتك أم الفضل ؟ فقال العباس : أي ذهب ؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنك قلت لها لا أدري ما يصيبني في وجهي هذا فإن حدث بي حدث فهو لك ولولدك . فقال : يا بن أخي ، من أخبرك بهذا ؟ قال : الله أخبرني . قال العباس : أشهد أنك صادق ، وما علمت أنك رسول الله قط إلا اليوم ، وقد علمت أنه لم يطلعك عليه إلا عالم السرائر ، أشهد أن لا إله إلا الله وأنك عبده ورسوله ، وكفرت بما سواه . وأمر ابني أخويه فأسلما ، ففيهما نزلت ياأيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى . وكان الذي أسر العباس أبا اليسر كعب بن عمرو أخا بني سلمة ، وكان رجلا قصيرا ، وكان العباس ضخما طويلا ، فلما جاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال له : لقد أعانك عليه ملك .
وفي صحيح مسلم أنه لما قدم على النبي صلى الله عليه وسلم مال من البحرين قال له العباس إني فاديت نفسي وفاديت عقيلا . فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : خذ . فبسط ثوبه وأخذ ما استطاع أن يحمله:
وقال العباس هذا خير مما أخذ مني ، وأنا بعد أرجو أن يغفر الله لي . قال العباس : وأعطاني زمزم ، وما أحب أن لي بها جميع أموال أهل مكة . وروي الطبري عن العباس أنه قال : في نزلت حين أعلمت رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسلامي ، وسألته أن يحاسبني بالعشرين أوقية التي أخذت مني قبل المفاداة فأبى . وقال : ذلك فيء فأبدلني الله من ذلك عشرين عبدا كلهم تاجر بمالي .([36])
أبو العاص بن الربيع زوج زينب بنت الرسول r في الأسر
عن عائشة رضي الله عنها قالت : لما بعث أهل مكة في فداء أسراهم بعثت زينب في فداء أبي العاص بمال ، وبعثت فيه بقلادة لها كانت عند خديجة أدخلتها بها على أبي العاص . قالت : فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم رق لها رقة شديدة وقال : رسول الله r رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها وتردوا عليها الذي لها ؟ فقالوا : نعم . وكان النبي صلى الله عليه وسلم أخذ عليه أو وعده أن يخلي سبيل زينب إليه . رواه أبي داود
وموقف سيدنا مصعب بن عمير مع أخيه أبي عزيز أجمل دليل علي عدم المحاباة في دين الله
قال ابن إسحاق-رحمه الله-: “وحدثني نبيه بن وهب، أخو بني عبد الدار أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – حين أقبل بالأسارى فرقهم بين أصحابه، وقال: استوصوا بالأسارى خيرا. قال: وكان أبو عزيز بن عمير بن هاشم أخو مصعب بن عمير لأبيه وأمه في الأسارى. قال: فقال أبو عزيز: مر بي أخي مصعب بن عمير ورجل من الأنصار يأسرني، فقال: شد يدك به، فإن أمه ذات متاع، لعلها تفديه منك .. قال ابن هشام: وكان أبو عزيز صاحب لواء المشركين بعد النضر بن الحارث، فلما قال أخوه مصعب بن عمير لأبي اليسر -وهو الذي أسره – ما قال، قال له أبو عزيز: يا أخي هذه وصاتك بي؟ فقال له مصعب: إنه أخي دونك ([37])
خيارات التعامل مع الأسير
لقد جعل الشرع لولي الأمر خيارات في التعامل مع الأسير علي حسب ما تقتضيه المصلحة العامة للمسلمين
ففي المذهب الحنفي ان “ولي الأمر” مخيرّ بين قتل الأسرى أو استرقاقهم أو تركهم ذمة للمسلمين أي تأخذ منهم الجزية وتؤخذ من أرضهم الخراج
وعند المالكية الإمام يختار بما هو الأصلح للمسلمين في الأسرى قبل القسمة، بين أحد أمور خمسة هي: القتل أو الاسترقاق أو المّن أو الفداء أو ضرب الجزية عليهم. ([38]) .
قال ابن رشد: “وأكثر العلماء على أن الإمام مخير في الأسارى في خصال: منها أن يمن عليهم، ومنها أن يستعبدهم، ومنها أن يقتلهم، ومنها أن يأخذ منهم الفداء، ومنها أن يضرب عليهم الجزية([39])
حكم قتل الأسير الكافر ولعل هذا السؤال يتبادر الي الأذهان كثيرا
ذكر العلماء أن القتل يعد خيارًا من الاختيارات التي جعلها الشرع لولي الأمر؛ فقد ثبت أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل بعض الأسرى؛ منهم: عقبة بن أبي معيط، وطعيمة بن عدي، والنضر بن الحارث، وهم من أسرى بدر وقتل أيضا أبو عزة في أحد وقتل بنو قريظة عندما غدروا بالمسلمين وأباح دم عددا من قريش عند فتح مكة .
وجواز قتل الأسير هو مذهب جمهور الفقهاء من الأحناف والمالكية والشافعية والحنابلة وغيرهم، لكنَّهم يجعلونه خيارًا مرتبطًا بالمصلحة وجوبًا، فإذا كانت المصلحة تقضي عدم قتلهم، فلا يجوز في هذه الحال أن يحكم عليهم بالقتل، كما أنه إذا ارتبط المسلمون بمعاهدات دولية تمنع قتل الأسرى فيجب عليهم الوفاء بها، ولا يجوز في هذه الحالة قتل الأسير([40])
قال الجصاص: أتفق علماء الأمصار على جواز قتل الأسير لا نعلم بينهم خلافاً فيه وقد تواترت الأخبار عن النبي (صلى الله عليه وسلم) في قتل الأسير منها قتله عقبة بن أبي معيط والنضر بن الحارث الذي قتله بعد الأسر يوم بدر .([41])
قال ابن رشد في بداية المجتهد: “وأكثر العلماء على أن الإمام مخيَّر في الأسارى في خصال؛ منها أن يمنَّ عليهم، ومنها أن يستعبدهم، ومنها أن يقتلهم، وحكى الحسن بن محمد التميمي أنه إجماع الصحابة”([42])
أقوال العلماء وتفاصيل في حكم قتل الأسير ؟
أولا اختلف العلماء في مسألة قتل الأسير إلى عدة أقوال والسبب في هذا الاختلاف تفسير أية السيف وهي قول الله تعالى: ﴿ فَإِذَا انسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ سورة التوبة 5
المعني العام للآية
فإذا انقضت الأشهر الأربعة التي أمَّنتم فيها المشركين، فأعلنوا الحرب على أعداء الله حيث كانوا، واقصدوهم بالحصار في معاقلهم، وترصدوا لهم في طرقهم، فإن رجعوا عن كفرهم ودخلوا الإسلام والتزموا شرائعه من إقام الصلاة وإخراج الزكاة، فاتركوهم، فقد أصبحوا إخوانكم في الإسلام، إن الله غفور لمن تاب وأناب، رحيم بهم. ([43])
ثم اختلف المفسرون في آية السيف هذه فمن العلماء من قال أنها منسوخة ومنهم من قال أنها ناسخة وغير منسوخة ، قال الضحاك والسدي : هي منسوخة بقوله تعالى : { فإما منا بعد وإما فداء } [ محمد : 4 ] وقال قتادة بالعكس .
قال ابن كثير هذه الآية الكريمة هي آية السيف التي قال فيها الضحاك بن مزاحم : إنها نسخت كل عهد بين النبي – صلى الله عليه وسلم – وبين أحد من المشركين ، وكل عهد ، وكل مدة .
وقال العوفي ، عن ابن عباس في هذه الآية : لم يبق لأحد من المشركين عهد ولا ذمة ، منذ نزلت براءة وانسلاخ الأشهر الحرم ، ومدة من كان له عهد من المشركين قبل أن تنزل أربعة أشهر ، من يوم أذن ببراءة إلى عشر من أول شهر ربيع الآخر .
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في هذه الآية ، قال : أمره الله تعالى أن يضع السيف فيمن عاهد إن لم يدخلوا في الإسلام ، ونقض ما كان سمى لهم من العقد والميثاق ، وأذهب الشرط الأول .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا إسحاق بن موسى الأنصاري قال : قال سفيان قال علي بن أبي طالب : بعث النبي – صلى الله عليه وسلم – بأربعة أسياف : سيف في المشركين من العرب قال الله : فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم هكذا رواه مختصرا ، وأظن أن السيف الثاني هو قتال أهل الكتاب في قوله : ( قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون [ التوبة : 29
والسيف الثالث : قتال المنافقين في قوله : ( ياأيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم [ التوبة : 73 ، والتحريم : 9 ] والرابع : قتال الباغين في قوله :وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله ) الحجرات : 9 ([44])
يقول القرطبي رحمه الله
(ثم اختلفوا ، فقال الحسين بن الفضل : نسخت هذه كل آية في القرآن فيها ذكر الإعراض والصبر على أذى الأعداء .وقال الضحاك والسدي وعطاء : هي منسوخة بقوله : فإما منا بعد وإما فداء
وأنه لا يقتل أسير صبرا ، إما أن يمن عليه وإما أن يفادى .وقال مجاهد وقتادة : بل هي ناسخة لقوله تعالى : فإما منا بعد وإما فداء وأنه لا يجوز في الأسارى من المشركين إلا القتل . ([45])
القول الراجح
ما ذهب اليه بعض أهل العلم : الي أن أية السيف ليست ناسخة ولا منسوخة فهي محكمة وأية المن والفداء في سورة محمد أيضا محكمة والأمر يرجع لأحوال المسلمين المختلفة ؛ فإذا قوي المسلمون وصارت لهم قوة استعملوا آية السيف ، وما جاء في معناها ، وقاتلوا كل من صد عن سبيل الله عز وجل ، أما أن كانوا في حالة ضعف فيقاتلوا حسب قدرتهم ، ويكفوا عمن كف عنهم ، فيكون الأمر بحسب المصلحة والمفسدة للمسلمين
يقول النحاس في الناسخ والمنسوخ الآيتين جميعا محكمتان وهو قول ابن زيد وهو قول صحيح بين لأن إحداهما لا تنفي الأخرى، قال جل وعز {فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم} [التوبة: 5] أي وخذوهم أسرى للقتل أو المن أو الفداء ، فيكون الإمام ينظر في أمور الأسارى على ما فيه الصلاح من القتل أو المن أو الفداء وقد فعل هذا كله رسول الله صلى الله عليه وسلم في حروبه فقتل عقبة بن أبي معيط والنضر بن الحارث أسيرين يوم بدر ومن على قوم وفادى بقوم قال([46])
ويقول القرطبي قال ابن زيد : الآيتان محكمتان .وهو الصحيح ؛ لأن المن والقتل والفداء لم يزل من حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم من أول حرب حاربهم ، وهو يوم بدر كما سبق .وقوله وخذوهم والأخذ هو الأسر .والأسر إنما يكون للقتل أو الفداء أو المن على ما يراه الإمام . ([47])
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : من كان من المؤمنين بأرض هو فيها مستضعف ، أو في وقت هو فيه مستضعف : فليعمل بآية الصبر والصفح عمن يؤذي الله ورسوله ، من الذين أوتوا الكتاب والمشركين وأما أهل القوة : فإنما يعملون بآية قتال أئمة الكفر الذين يطعنون في الدين ، وبآية قتال الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون.” ([48])
يقول الشيخ ابن باز رحمه الله (هذه الآيات وما في معناها : قال بعض أهل العلم ليست ناسخة لآيات الكف عمن كف عنا وقتال من قاتلنا ، وليست ناسخة لقوله: (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) ، ولكن الأحوال تختلف فإذا قوي المسلمون وصارت لهم السلطة والقوة والهيبة استعملوا آية السيف وما جاء في معناها ، وعملوا بها ، وقاتلوا جميع الكفار حتى يدخلوا في دين الله ، أو يؤدوا الجزية .وإذا ضعف المسلمون ولم يقووا على قتال الجميع : فلا بأس أن يقاتلوا بحسب قدرتهم ، ويكفوا عمن كف عنهم ، إذا لم يستطيعوا ذلك ، فيكون الأمر إلى ولي الأمر ، إن شاء قاتل وإن شاء كف ، وإن شاء قاتل قوما دون قوم على حسب القوة والقدرة والمصلحة للمسلمين ، لا على حسب هواه وشهوته ، ولكن ينظر للمسلمين وينظر لحالهم وقوتهم .وهذا القول ذكره أبو العباس شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – واختاره …وهذا القول اختاره جمع من أهل العلم ، واختاره الحافظ ابن كثير – رحمه الله – وهذا القول أظهر وأبين في الدليل ؛ لأن القاعدة الأصولية أنه لا يصار إلى النسخ إلا عند تعذر الجمع بين الأدلة ، والجمع هنا غير متعذر “([49])
وخلاصة أقوال العلماء هي:
القول الأول -لا يجوز قتل الأسير وانما يمن عليه أو يفدى وان قوله تعالى: {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} منسوخ بقوله تعالى: {فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء} وهو قول جماعة من التابعين كعطاء والحسن البصري
القول الثاني -لا يجوز في أسرى المشركين إلا القتل وجعلوا قوله تعالى: {فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} ناسخاً لقوله تعالى: {فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء} وهو قول مجاهد والسدي والحنفية .
3_ الإمام مخير بين البدائل الأربعة وهي أما القتل أو المن أو الفداء أو الاسترقاق وهو مذهب جمهور العلماء من المالكية والشافعية والحنابلة وأضاف المالكية بديلاً خامساً وهو الجزية لكنه داخل في مفهوم الفداء ([50]).
والذي يترجح أنَّ قتل الأسير لمجرَّد أنه أسير غير جائز من جهة الأصل، لكنَّه يصير جائزًا إذا وجد في أسير معيَّن أسباب أخرى تُبيح قتله، فهو عند ذلك يقتل لهذه الأسباب، وليس للأسر.
ولعل هذا القول يفسِّر كلَّ الحوادث التي قضى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل بعض الأسرى؛ فأبو عزَّة الجمحي استحقَّ القتل؛ لأنه عاهد ونقض العهد.
وأسرى بنو قريظة استحقوا القتل؛ لأنهم عاهدوا المسلمين على القتال معهم ضدَّ كلِّ عدو خارجي، فلما جاء المشركون وحاصروا المدينة في غزوة الأحزاب، نقضوا عهدهم وانضمُّوا إليهم، وقد كان هذا الغدر كفيلاً بالقضاء على الإسلام وإبادة المسلمين، لولا أنَّ رعاية الله حفظتهم.
وأسرى بدر الذين قتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وهم: عقبة بن أبي معيط، والنضر بن الحارث، وطعيمة بن عدي – كانوا قد قاموا بإيذاء المسلمين وتعذيبهم وتعريضهم للموت.
فهؤلاء الأسرى الذين قُتلوا في العهد النبوي أشبه ما يكونون بمجرمي حرب في المعاهدات الدولية الحديثة؛ لما ارتكبوه من جرائم في حق الأبرياء؛ ولذلك وجب أن يقدَّموا للمحاكمة، ويمكن أن يحكم عليهم بالقتل أو بعقوبة أخرى.([51])
هل يؤخد من الأسير الجزية
ذكر بعض العلماء أنه إذا طلب الأسير أن يكون من رعايا الدولة الإسلامية، له ما للمسلمين وعليه ما عليهم، ويخضع لنظام هذه الدولة مع الاحتفاظ بحقوقه الشخصية في العقيدة والعبادة، وهذا ما يُسمى عقد الذمة، فقد اتَّفق الفقهاء من جميع المذاهب على حقِّ السلطة في منحه عقد الذمَّة بشروط محددة في كتب الفقه؛ بل أوجب بعض الفقهاء على الإمام قبول عقد الذمَّة إذا طلبَه الأسير، وحرَّموا قتله في هذه الحالة إن كان من أهل الذمة([52])
استرقاق الأسير
وأما الاختيار الخامس بعد القتل والمن والفداء وأخذ الجزية فهو أن يفرض الإمام الرق على هؤلاء الأسرى.
فلولي الأمر أن يفرض الرق علي الأسرى نساء ورجال وأطفال طالما كانوا محاربين كما فعل رسول الله r مع بني قريظة وبني المصطلق وسبي أوطاس وهوازن يوم حنين وغيرهم فبدل من قتلهم رخص الإسلام في استرقاقهم ،وسرية أوطاس، هي سرية قادها أبي عامر الأشعري (عم أبو موسى الأشعري ) في السنة 8هـ بعد غزوة حنين وقبل غزوة الطائف ضد من فر من جيش هوازن بقيادة دُريد بن الصّمة.
استرقاق النساء
قال الله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} [النساء:24].
قال تعالى: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ [المؤمنون:5، 6] المراد به الإماء
قال القرطبي في تفسير هذه الآية: المراد بالمحصنات هنا المسبيات (الأسيرات)
وقد أعطى النبي صلى الله عليه وسلم حسان بن ثابت ـ رضي الله عنه ـ إحدى الجواري التي أهداها له المقوقس، وقال لحسان: دونك هذه بيض بها ولدك. أخرجه ابن سعد في الطبقات.
وكان للنبي صلى الله عليه وسلم ملك يمين مثل ريحانة بنت شمعون النصرانية ومارية القبطية ـ رضي الله عنهما ـ وكانتا من السراري فكان يطؤهما بملك اليمين.
ومن أحكام الإيماء الا توطأ الحامل حتى تضع حملها وغير الحامل حتي تحيض بحيضة واحدة علي الأقل
فقد نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبايا أوطاس: لا توطأ حامل حتى تضع، ولا غير ذات حمل حتى تحيض حيضة. رواه أبو داود وحسنه ابن حجر في التلخيص. والسبب في انتظارها حتي تحيض لكي يتأكد أنها غير حامل كما جاء في تحفة الأحوذي للمباركفوري: نهى أن توطأ السبايا حتى يضعن ما في بطونهن
ولأبي داود في حديث آخر: لا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يقع على امرأة من السبي حتى يستبرئها. والحديث كان في سبي أوطاس عندما أرادوا وطأهن قبل التأكد من براءة أرحامهن،
وأما البكر فلا تستبرأ، وقد روى عبد الرزاق عن ابن عمر أنه قال: إذا كانت الأمة عذراء لم يستبرئها إن شاء. ( صحيح البخاري ).([53])
حكم من أسرت مع زوجها الكافر
لا يحل جماعها طالما معها زوجها فتكون ملكا لزوجها وهو قول أبو حنيفة قال ابن قدامة في المغني: إذا سبي المتزوج من الكفار، لم يخل من ثلاثة أحوال: ـ أحدها: أن يسبى الزوجان معًا، فلا ينفسخ نكاحهما، وبهذا قال أبو حنيفة، والأوزاعي، وقال مالك، والثوري، والليث، والشافعي، وأبو ثور: ينفسخ نكاحهما؛ لقوله تعالى: {والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم} [النساء: 24] والمحصنات المتزوجات إلا ما ملكت أيمانكم بالسبي. ـ الحال الثاني: أن تسبى المرأة وحدها، فينفسخ النكاح، بلا خلاف علمناه، والآية دالة عليه، وقد روى أبو سعيد الخدري، قال: أصبنا سبايا يوم أوطاس، ولهن أزواج في قومهن، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت: {والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم} [النساء: 24]. (رواه الترمذي، وقال: هذا حديث حسن). إلا أن أبا حنيفة قال: إذا سبيت المرأة وحدها، ثم سبي زوجها بعدها بيوم، لم ينفسخ النكاح. ـ الحال الثالث: سبي الرجل وحده، فلا ينفسخ النكاح؛ لأنه لا نص فيه، ولا القياس يقتضيه، وقد سبى النبي صلى الله عليه وسلم سبعين من الكفار يوم بدر، فمنَّ على بعضهم، وفادى بعضًا، فلم يحكم عليهم بفسخ أنكحتهم .. وقال أبو الخطاب: إذا سبي أحد الزوجين انفسخ النكاح، ولم يفرق، وبه قال أبو حنيفة لأن الزوجين افترقت بهما الدار، وطرأ الملك على أحدهما، فانفسخ النكاح، كما لو سبيت المرأة وحدها. ([54])
وليس في هذا الوطء عدوان على المرأة المسبية ولا انتهاك لحقوقها لأن هذا حكم شرعي حكم به الله سبحانه وسوف تنضم هذه المرأة إلى رجل يرعاها ويقوم علي شأنها فتكون مع عياله وأهله، وسوف تعامل كالزوجة تماما من احترام وطعام وشراب
وقد أوصى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لحظة وفاته، فكان يقول في عند وفاته: (الصلاة وما ملكت أيمانكم، الصلاة وما ملكت أيمانكم، الصلاة وما ملكت أيمانكم) أو كما قال عليه الصلاة والسلام، وقال عليه الصلاة والسلام: (إخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديدكم؛ فمن كان أخوه تحت يديه؛ فلا يكلفه ما لا يطيق، فإذا كلفه فليعينه -وفي رواية- فليلبسه مما يلبس ويطعمه إذا طعم) أو كما قال عليه الصلاة والسلام.([55])
وعن أبي ذر قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: « إخوانُكم خَوَلُكُم، جَعَلَهُم اللهُ تحت أيديِكم، فمن كان أخوه تحت يده، فلْيُطْعِمه مما يأكلُ، ولْيَلْبِسُه مما يَلْبَسُ، ولا تكلُفُوهم ما يَغْلِبُهم، فإنْ كَلَفْتُمُوهم فَأَعِيْنُوهُم([56])
في سنن ابن ماجه عن أم سلمة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في مرضه الذي توفي فيه: الصلاة وما ملكت أيمانكم، فما زال يقولها حتى يفيض بها لسانه وصححه الألباني.
قال العلماء ومن المعلوم أن المرأة لها حاجاتها ومتطلباتها النفسية والجنسية فلو منعنا الرجل من وطئها ففي هذا فتنة له لأنها امرأة أجنبية مقيمة معه في بيته تقوم على خدمته وتشاركه خصوصياته فهي أمام عينيه صباح مساء، وفيه أيضا فتنة لها نظرا لاحتياجها لما تحتاجه النساء فاقتضت حكمة اللطيف الخبير أن يبيحها لسيدها ليحصل الإعفاف لكل منهما بدلا أن يقعا في الحرام أو تلجأ الجارية إلى فعل الفواحش والمنكرات فينبت في المجتمع نابتة من ملك اليمين تشيع فيه الفاحشة والرذيلة، وفي هذا معاملة كريمة للمرأة المسبية إذ إنها بذلك تعامل معاملة سيدتها، إضافة إلى أن هذا سيفتح لها باب العتق لأنها إذا حملت من سيدها وأنجبت فقد صارت أم ولد وأم الولد تخرج من الرق الكامل خروجا جزئيا بمجرد الوضع للمولود وتعتق عتاقا كاملا بمجرد موت سيدها.([57])
تحريم قتل الرسل وأسرهم
وكذلك حرم الإسلام قتل رسل الأعداء، وحض على حسن التعامل معهم وعدم التعرض لهم بالأذى؛ فقد احتمل رسول الله صلى الله عليه وسلم حماقة عروة بن مسعود في صلح الحديبية، وكذلك لم يقتل رسولي مسيلمة حين جاهَرَا بالكفر بين يديه صلى الله عليه وسلم؛ فعن سلمة بن نعيم بن مسعود الأشجعي عن أبيه نعيم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول حين قرأ كتاب مسيلمة الكذاب قال للرسولين: ((فما تقولان أنتما؟))، قالا: نقول كما قال، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((والله لولا أن الرسل لا تُقتَل، لضربت أعناقكما)([58])
وكان أبو سفيان كان ممَّن جرى عليه حكم انتقاض العهد ولم يقتله رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إذ كان رسولَ قومه إليه([59]).
إسلام الأسير
ان أسلم الأسير البالغ حرم دمه فلا يجوز قتله عند الجمهور لحديث أمرت ان أقاتل الناس حتى يشهدوا ان لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها
ولولي الأمر له في التعامل معه جميع الخيارات عدا القتل المن والفداء والإسترقاق.
وإسلام الأسير له حالتان الأولى إن كان قبل أسره والمقدرة عليه، فيعامل معاملة المسلم ولا يجوز أسره
وإن كان بعد أسره والقدرة عليه جاز أسره لأن إسلامه حدث بعد القيد فقد روي عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اسروا رجلاً من ثقيف فقال: يا محمد اني مسلم، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: لو قلتها وأنت تملك أمرك لأفلحت كل الفلاح . ثم تركه في الوثاق ولم يقبل منه، ([60])
التعامل مع الأسير في ظل الاسلام
كانت الأمم الأخرى تتفنن في تعذيب الأسرى وتقديمهم كقرابين للآلهة كما كان يفعل العرب في الجاهلية والفرس والروم وغيرهم.
وكان الروم ومِن قبلهم الآشوريون والفراعنة يَسمِلُون عيون الأسرى (أي يفقأون أعينهم بالمسامير المحمَّاة ) ويسلخون جلودهم ويُطعمونها الكلاب ، حتى فضَّل الأسرى السجناء الموت على الحياة ([61])
وما يحدث في العصر الحديث أكبر دليل علي وحشية الكفار مع المسلمين فسجون الإحتلال الصهيوني تشهد علي هذا الإجرام وما حدث في سجن أبو غريب في العراق في أوائل 2004 من انتهاكات جسدية ونفسية و جنسية واغتصاب وقتل بحق السجناء المسلمين وما حدث في محاكم التفتيش في الأندلس وانتهاكات الحروب الصليبية الهمجية معروفة في التاريخ).
أما عندنا في الإسلام جاء من صفات الأبرار أهل الصدق ما ذكر في قوله تعالى: (إن الأبرار يشربون من كأس ….. ) أنهم ﴿ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيرا إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءً ولا شكورا﴾
قال ابن عباس: كان أسراؤهم يومئذ مشركين. ويشهد لهذا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه يوم بدر أن يكرموا الأسارى، فكانوا يقدمونهم على أنفسهم عند الغداء، وهكذا قال سعيد بن جبير، وعطاء، والحس، وقتادة.([62])
يقول القرطبي .: وكأن هذا القول عام يجمع جميع الأقوال، ويكون إطعام الأسير المشرك قربة إلى الله تعالى، غير أنه من صدقة التطوع، فأما المفروضة فلا وقوله تعالى: (ويطعمون الطعام على حبه) قال ابن عباس ومجاهد: على قلته وحبهم إياه وشهوتهم له. وقال الداراني: على حب الله. وقال الفضيل بن عياض: على حب إطعام الطعام. وكان الربيع بن خيثم إذا جاءه السائل قال: أطعموه سكرا فإن الربيع يحب السكر([63])
قال قتادة: لقد أمر الله بالأسرى أن يحسن إليهم، وإن أسراهم يومئذ لأهل الشرك، وأخوك المسلم أحق أن تطعمه.([64])
وفي الآية مدح وثناء لمن يفعل هذا قال مجاهد أي يطعمون الطعام لهؤلاء وهم يشتهونه ويحبونه
قال ابن كثير – رحمه الله – إن في إطعام الأسير المشرك ثواباً، وهذا محمول على صدقة التطوع. فأما الفرض فلا يجوز صرفه إلى الكفَّار، ذكره القاضي أبو يعلى.
ومعني: إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ أي: لطلب ثواب الله. قال مجاهد، وابن جبير: أما إنهم ما تكلموا بهذا، ولكن علمه الله من قلوبهم، فأثنى به عليهم لِيَرْغَبَ في ذلك راغب ([65])
كانت معاملة النَّبيِّ (ﷺ) للأسرى تحفُّها الرَّحمة، والعدل، والنظرة الدَّعوية؛ فقبل ببعضهم الفداء، وآخرون اشترط عليهم تعليم عشرة من أبناء المسلمين مقابل المنِّ عليهم ([66])
وروى الطبري في تاريخه: “أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أقبل بالأسارى فرقهم في أصحابه وقال: ((استوصوا بالأسارى خيرًا)).
وكان أبو عزيز بن عمير بن هاشم أخو مصعب بن عمير لأبيه وأمه في الأسارى قال: وكنت في رهط من الأنصار حين أقبلوا بي من بدر، فكانوا إذا قدموا غداءهم وعشاءهم خصوني بالخبز وأكلوا التمر؛ لوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم إياهم بنا، ما تقع في يد رجُل منهم كسرة من الخبز إلا نفَحَني بها، قال: فأَستحي فأردُّها على أحدهم، فيردُّها عليَّ ما يمسها”([67])
والخبز في هذا التوقيت كان أفضل من التمر لقلة الخبز
وكان أبو العاص بن الرَّبيع يحدِّث، فقال: كنت في رَهْطٍ من الأنصار جزاهم الله خيراً، كنَّا إذا تعشَّينا، أو تغدَّينا، اثروني بالخُبْزِ، وأكلوا التَّمْرَ، والخبزُ معهم قليلٌ، والتَّمْرُ زادُهم، حتَّى إنَّ الرَّجل لتقع في يده كِسْرَةٌ فيدفعها إليَّ، وكان الوليد بن الوليد بن المغيرة يقول مثلَ ذلك، ويزيد: «وكانوا يحملوننا، ويمشون».
وكان العباس عم الرسول قد شد وثاقه فسهر النبي صلى الله عليه وسلم تلك الليلة ولم ينم، فقال له بعض اصحابه: ما يسهرك يا نبي الله؟ فقال: «أسهر لأنين العباس»، فقام رجل من القوم فأرخى وثاقه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مالي لا اسمع انين العباس؟ فقال الرجل: انا ارخيت من وثاقه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فافعل ذلك بالأسرى كلهم»،
كسوة الأسير
من الحقوق التي كفلها الإسلام للأسير حقُّ الطعام والكسوة ، فلا يجوز تركه بدون طعام وشراب وكسوة حتى يهلك ، وقد عنون البخاري في صحيحه بابًا أسماه : ” باب الكسوة للأسارى ” ..
ثم من تمام رعاية الإسلام للأسير فانه يكسوه إذا كان بحاجة إلى الملابس، ففي معركة بدر أُتي بأسرى وأتي بالعباس ولم يكن عليه ثوب فنظر النبي (r ) له قميصاً فوجد قميص (عبد الله بن أُبي) يقدر عليه فكساه النبي (r ) إياه .
ولا بد له من كسوة لائقة تستر عورته وتحترم أداميته وتقيه حر الصيف وبرد الشتاء؛ أخرج البخاري في الصحيح عن جابر رضي الله عنه أنه لما كان يوم بدر أُتي بالأسارى، وأُتي بالعباس ولم يكن عليه ثوب، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد قميصَ عبدالله بن أبي الحارث يقدر عليه فكساه إياه، كما ورد أنه عليه السلام كسا بعض الأسارى من ملابسه( [68])
قال الكاساني: “وإذا عزم المسلمون على قتل الأسارى، فلا ينبغي أن ُيعذِّبوهم بالجوع والعطش وغير ذلك من أنواع التعذيب؛ لأن ذلك تعذيب من غير فائدة، وقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في بني قريظة: ((لا تجمَعوا عليهم حر هذا اليوم وحر السلاح وفي زيادة عند الواقدي: ((قيِّلوهم حتى يبردوا([69])
يقول الدكتور الصلابي
أحكام الشريعة الإسلامية المتعلقة بالتعامل مع الأسرى شملت إجازة النفقة عليهم وكسوتهم، حيث روى البخاري عن جابر بن عبدالله (رضي الله عنهما) قال: “لما كان يوم بدر، أتي بأسارى بدر، وأُتي بالعباس، ولم يكن عليه ثوب فنظر النبي (ﷺ) له قميصاً، فوجد قميص عبدالله بن أبي يقدر عليه، فكساه النبي (ﷺ) إياه”، وهذا في شأن الكسوة. ([70])
عدم إجبار الأسير علي اعتناق الإسلام
من حقوق الأسير ممارسة العبادة الخاصة به وقت أسره ، ولا يكره علي الإسلام
﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ (256 البقرة)
فلا يُجْبَرُ الأسير على اعتناق الإسلام ، ولم يصدر عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولا عن الصحابة الكرام أنهم أجبروا أسيرًا على الإسلام ، ، كما فعل ثُمَامَةُ بْنُ أُثَالٍ ـ رضي الله عنه ـ ، فبعد أن أمر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بإطلاق سراحه , ذهب ليغتسل ويُسْلِمَ ، وكذلك فعل الوليد بن أبي الوليد بعد أن افتداه أهله من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أسلم ، فقيل له : لماذا أسلمت بعد الفداء ؟ ، فقال : حتى لا يظنَّ أحد أنما أسلمتُ من عَجْزِ الأسر ..
وأيضا حدث مع غَوْرَثِ بْنِ الحارث الذي استلَّ سيف النبي من الشجرة ، وقال له : من يمنعك مني ؟ ، وعندما وقع السيف من الرجل وأصبح في يد رسول الله ، لم يجبره النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على الدخول في الإسلام ، بل عفا عنه وتركه حرًّا طليقًا ، فأسلم بعد ذلك ..
أثار المعاملة الحسنة مع الأسير
وبسسب المعاملة الحسنة من النبي r والصحابة الكرام نجد عددا كبيرا دخل الإسلام حبا في تعاليمه
وقصة سيدنا ثمامة بن أثال أكبر دليل نذكرها لجمالها
انطلقت سرية لسيدنا محمد بن مسلمة وكانت أول سرية بعد غزوة الأحزاب وبني وقريظة، وكانت – في شهر المحرم من العام السادس للهجرة ضد بني القرطاء في أرض نجد، وفي عودتهم ، أسروا سيد بني حنيفة ثمامة بن أثال الحنفي ،وكانوا لا يعرفونه، فقدموا به المدينة وربطوه بسارية من سواري المسجد، فلما خرج إليهم الرسول ﷺ قال: «أَتَدْرُونَ مَنْ أَخَذْتُمْ؟ هَذَا ثُمَامَةُ بْنُ أُثَالٍ الْحَنَفِيّ، أُحْسِنُوا إسَارَهُ» ورجع الرسول إلى أهله، فقال لهم: «اجْمَعُوا مَا كَانَ عِنْدَكُمْ مِنْ طَعَامٍ فَابْعَثُوا بِهِ إلَيْهِ».. وقد أمر النبي بِلِقْحَتِهِ – أي ناقته – أَنْ يشرب ثمامة من حليبها. ولازال الرسول يتردد عليه، ويدعوه إلى الإسلام،
فخرج إليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ” ما عندك يا ثمامة “؟ قال عندي خير، يا محمد إن تقتلني تقتل ذا دم ، وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فسل منه ما شئت ، فتركه حتى كان الغد، ثم قال له: ” ما عندك يا ثمامة) ؟ فقال: عندي ما قلت لك إن تنعم تنعم على شاكر، فتركه حتى بعد الغد فقال: ” ما عندك يا ثمامة “؟ فقال عندي ما قلت لك ، فقال: ” أطلقوا ثمامة ” فانطلق إلى نخل قريب من المسجد، فاغتسل ثم دخل المسجد فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، يا محمد والله ما كان على وجه الأرض وجه أبغض إلي من وجهك، فقد أصبح وجهك أحب الوجوه إلي، والله ما كان دين أبغض إلي من دينك فأصبح دينك بأحب الدين إلي، والله ما كان من بلد أبغض إلي من بلدك، فأصبح بلدك أحب البلاد إلي، وإن خيلك أخذتني، وأنا أريد العمرة فماذا ترى؟ فبشره رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره أن يعتمر
وكان رحمه الله أول معتمر في الإسلام
استأذن ثمامة الرسول ان يؤدي العمرة فكان أول مسلمٍ في الدنيا يدخل مكة ملبِّياً، وكانت مكة، لا تزال فيها الأصنام. حتى إذا بلغ بطن مكة وقف يرفع بصوته بالتلبية، قائلاً: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمـد والنعمة لك والملك، لا شريك لك، لا شريك لك فلما سمعت قريشٌ صوتَ التلبية، فهبوا رافعين ومستلين سيوفهم مِن أغمادها، واتجهوا نحو الصوت فلما أقبلوا على ثمامة، رفع صوته بالتلبية أكثر ما كان ، فهمَّ فتىً من فتيان قريش أن يرميه بسهمٍ، فأخذوا على يديه، وقالوا: ويحك أتعلم من هذا؟ إنه ثمامة بن أثال، ملك اليمامة، والله إن أصبتموه بسوءٍ لقطع قومه عنا الميرة، وأماتونا جوعاً،
ثم أقبل القوم على ثمامة فقالوا له أصبوت؟ قال: لا! ولكن أسلمت مع محمد صلى الله عليه وسلم ولا والله لا تأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتى يأذن فيها النبي صلى الله عليه وسلم
الحصار الاقتصادي الذي قام به على مكة
عندما انتهى ثمامة بن اثال من عمرته ،وعاد إلى بلاده أمر قومه بأن يحبسوا الميرة عن قريش، فاستجابوا لأمره ، فرتفعت الأسعار في مكة، وجاعوا وأشتد بهم الكرب حتى خافوا على أنفسهم وذراريهم من الهلاك. فكتبوا إلى الرسول ﷺ يقولون: نسألك بالرحم. إن ثمامة بن أثال قد قطع عنا ميرتنا وأضرَّ بنا. فإن رأيت أن تكتب إليه أن يبعث بما نحتاج إليه فافعل. فكتب عليه الصلاة والسلام إلى ثمامة بأن يطلق لهم ميرتهم فأطلقها.
ثباته علي الإسلام وقت الفتن
لما ظهر مسيلمة وادعى النبوة قام ثمامة بن أثال في قومه فوعظهم وذكرهم وقال: إنه لا يجتمع نبيان بأمر واحد! وإن محمدا رسول الله لا نبي بعده ولا نبي يشرك معه. وقرأ عليهم: «حم تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير» غافر: 1- هذا كلام الله. أين هذا من يا ضفدع سورة الضفدع قال أخزاه الله : ( يا ضفدع بنت ضفدعين , نقي ما تنقين , نصفك في الماء ونصفك في الطين , لا الماء تكدرين , ولا الشراب تمنعين والله إنكم لترون أن هذا كلام ما خرج من إل. فلما قدم خالد بن الوليد اليمامة شكر ذلك له وعرف به صحة إسلامه.([71])
ومن أثار المعاملة الحسنة إسلام أسرى غزوة بني المصطلق :
كان من بين الأسرى الذين أسرهم المسلمون في غزوة بني المصطلق جويرية بنت الحارث بن ضرار سيد قومه ، وكانت بركة على قومها ، فقد ذكرت ـ أم المؤمنين ـ عائشة : ( أن جويرية أتت إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقالت له : قد أصابني من البلاء ما لم يخف عليك ، فوقعت في السهم لثابت بن قيس بن شماس ،فكاتبته على نفسي ، فجئت أستعينك على كتابي .. فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : فهل لك في خير من ذلك ؟! ، قالت : وما هو يا رسول الله ؟ ، قال : أقض عنك كتابك وأتزوجك ، قالت : نعم يا رسول الله قد فعلت .. قالت عائشة : وخرج الخبر إلى الناس أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد تزوج جويرية بنت الحارث ، فقال الناس : أصهار رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأرسلوا ما في أيديهم من سبايا بني المصطلق .. فلقد أعتق تزويجه إياها مائة أهل بيت من بني المصطلق ، فما أعلم امرأة أعظم بركة على قومها منها ( رواه أحمد ..)
و تعتبر غزوة بني المصطلق (المريسيع) من الغزوات المباركة التي أسلم فيها قبيلة بكاملها ، وكان زواج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بجويرية ـ رضي الله عنها ـ السبب في ذلك والمعاملة الحسنة من الصحابة الكرام ، وعتقم من الأسر بكونهم أصهار رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأعتقوهم جميعا بغير فداء ..
ومن أثار التعامل الحسن إختيار السيدة صفية لرسول الله r وترك أبوها
وحادثة التخيير رواها ابن سعد في “الطبقات الكبرى” (8 / 93)، قال: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ الرَّقِّيُّ قَالَ: حدثنا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو عَنْ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي قِلابَةَ: ” أَنَّ النَّبِيَّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – سَبَى جُوَيْرِيَةَ بِنْتَ الْحَارِثِ، فَجَاءَ أَبُوهَا إِلَى النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -فَقَالَ: إِنَّ ابْنَتِي لا يُسْبَى مِثْلُهَا، فَأَنَا أَكْرَمُ مِنْ ذَاكَ فَخَلِّ سَبِيلَهَا. قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ خَيَّرْنَاهَا؛ أَلَيْسَ قَدْ أَحْسَنَّا؟ قَالَ: بَلَى وَأَدَّيْتَ مَا عَلَيْكَ. قَالَ: فَأَتَاهَا أَبُوهَا، فَقَالَ: إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ قَدْ خَيَّرَكِ، فَلا تَفْضَحِينَا. فَقَالَتْ: فَإِنِّي قَدِ اخْتَرْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. “([72]):
أسري مكة وكيف تعامل معهم رسول الله r :
كان موقف رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من أهله الذين ناصبوه العداء منذ أن بدأ بتبليغ دعوته ، فبعد أن أكرمه الله وفتح مكة ، وتمكن منهم ، قال لهم ماذا ترون أني فاعل بكم ؟! ، قالوا : أخ كريم ، وابن أخ كريم ، قال : اذهبوا فأنتم الطلقاء رواه البيهقي .
أسري غزوة حنين وكيف تعامل معهم رسول الله r
عندما انتصر الرسول r على هوازن انتصارا كبيرا ، وكانت الغنائم كثيرة ، أسروا عدداً ضخماً من المشركين معظمهم من نساء هوازن وأطفالها وجاء وفد هوازن لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالجعرانة وقد أسلموا ، فقالوا : يارسول الله إنا أصل وعشيرة ، وقد أصابنا من البلاء مالم يخف عليك ، فامنن علينا منَّ الله عليك ..فأطلق الرسول صراحهم