بسم الله والحمد لله , والصلاة والسلام على رسول صلى الله عليه وسلم .
وبعد
فلو راجع القارئ ما تركه أبو حنيفة من تراث، وتحديدا ما رواه عنه أصحابه كأبي يوسف القاضي ومحمد بن الحسن سيجد أن أبا حنيفة لم يكن متمسّكا بالسنّة فحسب، بل كذلك بآثار الصحابة رضي الله عنهم، فهو رجل “نصوصيّ” إنْ صحّ التعبير، متمسّكٌ بالآثار وعليها يبني مذهبه وفقهه. واقرأوا كتاب “الآثار” لمحمد بن الحسن على سبيل المثال لتلمسوا ذلك. فهو وأهل الحديث يشتركان في حجّية الأخبار النبوية وآثار الصحابة، وعليها يبنون فقههم، ولكن افترقتِ المدرستان في المنهجية العلمية في التعامل مع هذه الآثار، وليس الأمرُ أنّ أهل الرأي عقلانيّون وأهل الحديث مهملون للعقل، بل كان لدى أهل الحديث مسالكهم العلمية الدقيقة وأحكامهم التي تدلّ على تفكير عقلاني رفيع والتي ردّوا بها الروايات، وكان الحكم على المتون – إلى جانب الأسانيد – من أهم ما اشتغلوا به والتفتوا إليه.
والواقع أنّ هذه الخصومة بين الكثير من أهل الحديث وبين أبي حنيفة هي خصومة علمية في شأن رواية الحديث وفي شأن بعض الآراء الفقهية والعقدية، ولكنها لم تكن خصومة بين منهجين مختلفين اختلافا جذريا في فهم الإسلام حتى يلمّح الكاتب إلى أنّ عدم روايتهم له ساهمَت في إفساد صورة الإسلام النقية، فقد كانت خصومة داخل دائرة أهل السنّة.
أي باحث جادّ في التراث الإسلامي، وتحديدا تراث القرون الأولى، يعلم أنّ الكثير من أهل الرأي الأحناف كانوا كذلك أهل حديث، بل كان بعضهم على مذهب أبي حنيفة في الرأي وعلى مذهب أهل الحديث في قبول الأحاديث والدفاع عنها، بل وعلى مذهبهم في إثبات الصفات. والاطلاع على هذه المساحة المشتركة من الشخصيات العلمية التي لها وزنها مهمٌّ جدّا؛ لأنّه يدلّ القارئ على أنّ الأمر بين الأحناف وأهل الحديث لم يكن بتلك الصورة التي حاول صاحب المنشور تصويرها، وهي: أنّ أهل الرأي عقلانيون منفتحون، وأهل الحديث نصوصيّون يلغون العقل! وسأذكر على عجالة بعض الأسماء لأئمة من أهل الرأي كانوا في نفس الوقت من أهل الحديث:
منهم أبو يوسف القاضي صاحب أبي حنيفة (ت 182 هـ)، ومنهم الحافظ معلى بن منصور الحنفي (ت 211 هـ)، ومنهم محمد بن علي الترمذي الملقّب بالحكيم الترمذيومنهم أبو جعفر الطحاوي الأزدي الحنفي (ت 321 هـ)،
مذهب أبي حنيفة في الفقه والعقائد قد شاع وانتشر عبر تلاميذه، فما الذي يجده في فقه أبي حنيفة المنقول لنا من قبل أبي يوسف والحسن وغيرهما من أهل الرأي مخالفا بشكل جذري لفقه أهل الحديث؟ وهبْ أنّنا طرحنا كل فقه أهل الحديث وعقائدهم وأخذنا بمذهب الأحناف الفقهي والعقدي، هل كنّا سنجد إسلامًا آخر غير هذا الذي نعرفه؟ ولو روى أهل الحديث تلك الروايات القليلة التي عند أبي حنيفة في كتبهم كصحيح البخاري ومسلم، فما هو ذلك التغيير الجذري الذي سيُعيد الإسلام نقيّا؟! من هنا نعلم أنّ ادعاءات لا معنى لها ولا قيمة!
والواقع أنّ هذه الخصومة بين الكثير من أهل الحديث وبين أبي حنيفة هي خصومة علمية في شأن رواية الحديث وفي شأن بعض الآراء الفقهية والعقدية، ولكنها لم تكن خصومة بين منهجين مختلفين اختلافا جذريا في فهم الإسلام حتى يلمّح الكاتب إلى أنّ عدم روايتهم له ساهمَت في إفساد صورة الإسلام النقية، فقد كانت خصومة داخل دائرة أهل السنّة