ماذا خسرت الأمة بإقالة القرآن؟ (1)
يمثل القرآن كلمة السر في البناء الحضاري المنشود، وذلك بما أحدثه في البيئة العربية الأولى موطن التنزيل، وبما أحدثه من تغييرات نفسية واجتماعية واسعة في تلك البيئة وكل ما اتصل من بيئات ونفسيات أخرى، حيث استطاع القرآن إعادة صياغة إنسان الحضارة، أو الإنسان الجديد القادر على حمل رسالة الاستخلاف في الأرض من خلال هذا المنهج القويم والقيم.
كما تظهر مكانة القرآن ودوره الحضاري فيما يمتلكه من قدرة هائلة على تنظيم الطاقة الحيوية للمجتمع وللفرد في إطار حضاري بارز المعالم الاجتماعية والأخلاقية يربط بين أهداف الأرض والسماء، وهو ما حدث في المجتمع الإسلامي الأول (الشاهد الواقعي/ التجريبي)، حيث استطاع الوحي القرآني توفير الشروط الزمنية والنفسية للبناء الحضاري، وأخضع الفرد والمجتمع إلى أداء نشاطه بطريقة بالغة التوفيق، وأخضعت رسالة الوحي أيضاً البدوي البسيط لنظامها الدقيق فجعلت منه إنساناً متحضِّراً ومحضِّراً، وأظهرت فعاليتها في إعادة تنظيم وتوجيه الطاقة الحيوية لهذا المجتمع الجاهلي.
إن الركيزة التي نطل منها في هذه المقالة على القرآن هي قوله تعالى للمسلمين: (وَهَـذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (الأنعام: 155)، تشير هذه الآية إلى أمرٍ وتحذير؛ الأول: أمر الاتباع، وشكلُ الاتباع هنا هو العمل بالقرآن وما يتضمنه من أوامر أو نواهٍ، ويكون ذلك عبر اقتفاء أثر القرآن بالمعرفة والعلم، وهذا الاتباع يحقق بلفظة القرآن: هداية الناس إلى الحق الدنيوي والأخروي معاً، ويقدم لهم بينات ما هم فيه، وبيان ما يطلبون من تساؤلات، ويحقق لهم معنى الفرقان بين الحق والباطل، أو بجماع هدايات القرآن: هداية العقل والمعرفة، وهداية الوجدان والانفعالات، وهداية السلوك والجوارح، وهداية الاجتماع والنظم، والمسلمون مطالبون شرعاً وعقلاً بالاتباع والعمل باستحقاقات هذه الهدايات، لأنها لازمة لهم في معاشهم ومعادهم.
أما التحذير فهو: واتقوا: ويعني التحذير من تحريف القرآن، والتحريف في اللفظ غير وارد بنص القرآن: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (الحجر: 9)، فيبقى المعنى الثاني للتحريف وهو تعطيل القرآن عن العمل في واقع المسلمين، وتزييف مقصودات معانيه، أو الإضلال عن عمله ووظيفته بين الناس، وهو ما قصدنا به هنا بلفظة «إقالة القرآن»؛ أي رفعه من واقع المسلمين وشؤون حياتهم الاجتماعية والوجدانية.
وهذا المعنى هو جوهر هذه السلسلة المتتابعة من المقالات التي جاءت تحت عنوان «ماذا خسرت الأمة بإقالة القرآن؟».
مفهوم «إقالة القرآن»
الإقالة: هي الرفع والإزالة؟ وتقال في الغالب في العقود التي تفسخ برضا الطرفين؛ أي إزالة ما تم من الاتفاق عليه وما يترتب عليه آثار، وفي الحديث: «من أقال أخاه بيعاً أقاله الله عثرته يوم القيامة»(1)، وعلى هذا فإننا نقصد بإقالة القرآن رفع آثار القرآن من حياة الناس وتعطيل خيره ونفعه في المعاش، وليس رفع أو إزالة جسد القرآن لأنه لن يمحى من الوجود بإذن الله تعالى الذي تكفل بحفظه.
إن إقالة القرآن هنا هي مقصود شكوى النبي صلى الله عليه وآله وسلم لله تعالى بهجر القرآن؛ (وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً) (الفرقان: 30)، ورغم أن الأمة المسلمة لم تقل بأن القرآن سحر أو غير حق كما قال كفار قريش، فإن هجرها تم بعلمٍ بعد أن استبان لها أنه الحق وجربوه وعملوا به، إلا أنهم عادوا ورفعوه من شؤون حياتهم ونظمهم، وتم التشويش على دور القرآن في معاش الناس ودنياهم المشهودة.
إن الأكثر من هجر تلاوة القرآن هو تغييب الوعي بالدور الاجتماعي الهدائي للقرآن ودوره في حركة الفرد والمجتمع المسلم، إذ لا يتم التفكير فيه مرجعًا لحلول المشكلات الاجتماعية، ولا موجهًا لقضايا التنمية والتعليم والسياسة والاقتصاد، ولا مرشدًا لأخلاق القادة والساسة والمجتمع عامة، ولا تشريعًا لنظمه وقوانينه، وهذه هي الإقالة الحقيقية للقرآن في واقع الأمة، كانت في البداية إقالة صامتة، ثم وجدنا أثرها في الحياة الإسلامية عامة وفي الحركة الاجتماعية خاصة، فكان هذا الغياب لذلك الكتاب الذي مكانه الحضور الدائم في حركة المسلمين وحياتهم.
لقد تمت إقالة القرآن تارةً بعلمٍ من خلال الاستجابة للمشروع التغريبي الذي فصل شؤون حياة المسلمين ونظمهم عن الدين، وتارةً بجهل من خلال استجابة المسلمين لهذا الفصل الذي تبعه ضعف العناية بالقرآن؛ درسًا وعملًا وبلاغًا، والاكتفاء بصوت القرآن وجسده في واقع الأمة عن روحه طاقته وحيويته وحقيقته، وتارةً بإغراء عن طريق الزخرفة والتلوين لصرف القلوب والعقول عن هداياته وخصبه وردوده وإجاباته، وتارة بالترهيب والتضليل والتخويف من الاقتراب من مفاصله وأحكامه وتشريعاته بزعم أنها تعطل الحركة وسرعة الحياة، وتارة بالتضليل بطرح أفكاره ومقاصده عن طريق اللغو فيه؛ (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) (فصلت: 26)، قيل في كيفية اللغو هنا: بالصياح، والمكاء، والتصفيق والتخليط.. حتى يصير لغوًا لا يستميل القلوب ولا يظهر (أي: لا يكون له قائمة بين الناس)، ولا يعلم له حقيقة، ولا يتحقق منه تحصيل.
لقد تفنن المسلمون في هذا العصر باللغو في القرآن، والانصراف عن حقائقه؛ بالإعلانات المدمجة في تلاوته، والاستغلال فيما يسمى بالأعمال الخيرية، ومنع أهل القرآن بالاتصال بالناس، والترويج للتافهين بشعارات القرآن، ومنحى مقرأة المشايخ (الأعضاء) وحدهم واستبعاد عموم الناس (من غيرهم) خوفًا أن يتسرب القرآن إلى نفوس المسلمين، والعناية برسم القرآن وزخرفته وألوانه والتضييق على القرآن الحقيقي.. وإفساح المجال لأهل الأهواء لاستغلاله شر استغلال.
مواضع إقالة القرآن
يمكن ملاحظة عدة مواضع تمت فيها إقالة القرآن، من أهمها:
1- انحسار الدرس القرآني في نظام التعليم العربي الإسلامي -في أغلبه- فيما يسمى بالمؤسسات الدينية كالأزهر في مصر والقيروان في تونس والجامعة الإسلامية في الجزائر أو ما شابه في بلاد العالم الإسلامي الأخرى، وخلو النظام التعليمي العام أو ما سمي بالتعليم المدني من منهجية واضحة لدرس القرآن.
2- انحسار الدراسات القرآنية في مواضعها التراثية الموروثة؛ أي في الجوانب اللغوية والبلاغية والتفسيرية، واستبعاد القرآن من الدراسات الاجتماعية والنفسية والثقافية والإعلامية وما إلى ذلك مما يدخل في صناعة الإنسان وتحقيق ملاءمة القرآن للمتغيرات والمستجدات.
3- إضعاف دور المسجد القرآني، فالمسجد يمثل حاضنة لدرس وتعليم القرآن، وَضَعُفَ هذا الدور بشكل واضح في العقود الأخيرة في كافة بلداننا العربية، وتواجه المساجد والمدارس القرآنية والكتاتيب تحديات وجودية خطيرة خلال الفترة الأخيرة وجه خاص.
4- ضعف دور المجتمع عامة ناحية أفراده فيما يتعلق بدرس القرآن وتعليمه، على خلاف الدور التجاري الذي انتشر في طريق التعامل الظاهري مع القرآن.
5- مما ترتب على ذلك تمدد الأمية القرآنية بين المسلمين، من أمية التلاوة إلى أمية التعامل والعلاقة إلى أمية الدرس والفهم، إلى أمية الإفادة والنفع إلى أمية البلاغ والتطبيق.