الحق بالقافلة
بقلم: الدكتور عبد الله عزام
مقدمة الطبعة الأولى
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وبعد:
فهذه رسالة صغيرة كتبتها للذين يتحرقون للجهاد ويطمعون في الشهادة في سبيله، وهي من فصلين:
أولهما: مبررات الجهاد.
ثانيهما: واإسلاماه.
وختمتها بخلاصة وملاحظات.. نرجو الله أن ينفع بها وأن يصلحنا ويصلح بنا.. إنه سميع قريب مجيب.
وقد أملتها علي رغبة في الرد على كثير من الرسائل التي تصلني تستشيرني بالقدوم إلى أفغانستان:
فحي على جنات عدن فإنها منازلك الأولى وفيها المخيم
ولكننا سبى العدو فهل ترى نعود إلى أوطاننا ونسلم
العبد الفقير
عبد الله عزام
(71) شعبان (7041ه-)-(51) نيسان (7891م)
الفصل الأول
مبررات الجهاد
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلا وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلا وبعد:
فإن الناظر في واقع المسلمين اليوم يجد أن مصيبتهم الكبرى هي ترك الجهاد (حب الدنيا وكراهية الموت) ولذا تسلط الطغاة على رقاب المسلمين في كل ناحية وفوق كل أرض، وذلك لأن الكفار لا يهابون إلا القتال:
(فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك وحرض المؤمنين عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا والله أشد بأسا وأشد تنكيلا)
(النساء: 84)
ونحن إذ ندعو المسلمين ونستحث خطاهم للقتال لأسباب كثيرة وعلى رأسها:
1- حتى لا يسود الكفر.
2- لقلة الرجال.
3- الخوف من النار.
4- أداء للفريضة واستجابة للنداء الرباني.
5- إتباعا للسلف الصالح.
6- إقامة القاعدة الصلبة التي تكون منطلقا للإسلام.
7- حماية المستضعفين في الأرض.
8- طمعا في الشهادة.
1- حتى لا يسود الكفر:
ففي الآية الكريمة:
(وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله فإن انتهوا فإن الله بما يعملون بصير) (الأنفال: 39)
فإذا توقف القتال ساد الكفر وانتشرت الفتنة وهي الشرك.
2- لقلة الرجال:
إن أزمة العالم الإسلامي هي أزمة رجال يضطلعون بحمل المسؤولية والقيام بأعباء الأمانة، وكما جاء في الصحيح: الناس كإبل مائة لا تجد فيها راحلته (1) [أي أن الكامل في الزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة لقلة الراحلة في الابل والراحلة هي البعير القوي على الاسفار والأحمال النحيب التام الخلق الحسن المنظر ويقع على الذكر والأنثى والهاء فيه للمبالغة].
أي لا تجد في كل (مائة جمل) واحدا يحتملك في أسفارك، وقد روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال لصفوة من صحبه تمنوا، فتمنى كل واحد منهم شيئا ثم قالوا: تمن يا أمير المؤمنين، فقال: أتمنى أن يكون لي ملء هذا البيت مثل أبي عبيدة.
إن الرجال الذين يعلمون قليلون والذين يعملون أقل، وإن الذين يجاهدون أندر وأغرب، وإن الذين يصبرون على هذا الطريق لا يكادون يذكرون.
نظرت ذات مرة في حلقة قرآنية من الشباب العرب الذين وردوا إلى أرض العزة والمجد -أعني أرض أفغانستان-.
والعز في صهوات المجد مركبه والمجد ينتجه الإسراء والسهر
أقول نظرت في وجوه الشباب، حتى أرى من بينهم من يتقن أحكام التلاوة لأوكل إليه الحلقة، فلم أجد أحدا ، وعندها حق لي أن أقول: ما أنصفنا قومنا، وهو نفس قول النبي صلى الله عليه وسلم عندما قتل سبعة بين يديه يوم أحد من شباب الأنصار.
ونحن نقول إن إخواننا المتعلمين والدعاة الناضجين لم يفدوا إلينا، بل إن بعضهم ينصح القادمين بالإستقرار في بلده، ولو كان لا يستطيع أن ينبس ببنت شفة من ظلم الطغاة وجبروت المتسلطين!! وبعضهم يفتي بلا علم، يقول: إن الأفغان بحاجة إلى مال وليسوا بحاجة إلى الرجال!! وأما أنا فمن خلال معايشتي اليومية لهذا الجهاد وجدت أن الأفغان بحاجة شديدة إلى المال ولكن حاجتهم إلى الرجال أشد، وعوزهم إلى الدعاة أكثر.. أقرر هذا وأنا أعيش السنة الثامنة بين المجاهدين.
وإن كنت في ريب مما أقول فهيا بنا نعبر أفغانستان لتجد جبهة بكاملها ليس فيها من يتقن قراءة القرآن، وانتقل معي إلى جبهة أخرى لتتأكد أن ليس فيها من يعرف صلاة الجنازة، مما يضطرهم لحمل شهيدهم -لأن الشهيد يصلى عليه في المذهب الحنفي- مسافات بعيدة ليجدوا من يصلي عليه.
أما أحكام الجهاد الفقهية كتوزيع الغنائم ومعاملة الأسرى فحدث عن الجهل بها ولا حرج في جبهات كثيرة، مما يضطرهم إلى تحويلهم إلى منطقة فيها عالم أو علماء ليروا فيهم رأيهم حسب مقتضى الشرع الإسلامي، وإنك لتلمس الحاجة الشديدة للدعاة والأئمة وقراء القرآن والعلماء من خلال الآثار العميقة التي خلفها في الجبهات شباب من العرب ذوي ثقافة بسيطة، قد لا تتجاوز المرحلة الثانوية، ونذكر على سبيل المثال لا الحصر الأخوة: عبد الله أنس، أبا دجانة، وأبا عاصم، وطاهر، وغيرهم كثير، ولو حدثتك عن أبي شعيب الأمي العربي وماذا ترك وراءه من آثار معنوية في ولاية بغلان بكاملها لوقفت واجما مشدوها لا تحير بكلمة ولا ينقضي منك العجب.
ونحن نأمل من الأخوة الذين لم يستطيعوا أن ينفلتوا من قفص العادات الإجتماعية، ولم ينفضوا عن رؤوسهم ركام التقاليد ولم يلقوا عن كاهلهم موروثات الأجيال المهزومة تحت ضغط الواقع المرير، وأمام الهجوم الإستشراقي الماكر الشرير، أقول لهؤلاء الأخوة: إن لم ينفروا إلينا بأنفسهم فلا أقل من أن يدعوا الذين يرفرفون بأرواحهم فوق أرض الجهاد أن يصلوا بأجسادهم إليها.
قلنا للقاضي (مظلوم) أحد أركان أحمد شاه مسعود -ألمع قائد في أفغانستان بلا منازع- حدثنا عن أبي عاصم قارئ القرآن الذي استشهد بينكم في (أندراب) فقال: لم أر مثله في هيبته وسمته ودله (الوقار والسكينة)، فكان أحدنا لا يجرؤ أن يتكلم في حضرته، ولا أن يمد رجله فضلا عن أن يهزل أو يضحك، فماذا تقول يا أخي إذا أخبرناك أن أبا عاصم لا يحمل إلا الشهادة الثانوية وعمره دون الثالثة والعشرين ولكنه يحفظ القرآن؟!!
ولذا فقد آن أوان الرجال، وهذا مقام الفعال دون حال المقال.
فدع عنك نهبا صحيحا في حجراته وهات حديثا ما حديث الرواحل(1) [البيت لامرئ القيس ومعناه الحرفي: أترك الحديث عن الحجرات التي نهبت أمتعتها، وحثني عن قطيع الجمال القوية التي عليها مدار حياتنا.
هذا مثال يقال لمن يتحدث عن الأمور التافهة ويدع الأمور العظيمة].
لقد حل بالمسلمين أمور عظيمة وأرزاء فادحة أليمة، فدع الكلام عن الطعام وعن أساليب الكلام، ولكن حدثني عن هذا الأمر الجلل وماذا قدم له المسلمون.
أمور لو تأملهن طفل لظهرت في عوارضه المشيب
3- الخوف من النار:
يقول الله عزوجل:
(إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم ولا تضروه شيئا والله على كل شيء قدير) (التوبة: 39)
قال ابن العربي: العذاب الأليم هو في الدنيا باستيلاء العدو وبالنار في الآخرة.(2) [تفسير القرطبي 8/142].
وقال القرطبي: وقد قيل أن المراد بهذه الآية وجوب النفير عند الحاجة وظهور الكفرة واشتداد شوكتهم.
ويقول الله عزوجل:
(إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض، قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا، إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفوا غفورا) (النساء: 97-99)
روى البخاري بإسناده عن عكرمة: أخبرني ابن عباس أن أناسا من المسلمين كانوا مع المشركين يكثرون سواد المشركين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي السهم فيرمي به فيصيب أحدهم فيقتله فأنزل الله تعالى: (إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم…) فإذا كان المؤمنون في مكة -القابضون على دينهم ولم يهاجروا وخرجوا حياء وخوفا من الكفار يوم بدر فكثروا سواد المشركين (عددهم) ثم قتل بعضهم- قد استحقوا جهنم برواية البخاري، فما بالك بالملايين من المتمسلمين الذين يسامون سوء العذاب ويعيشون حياة السوائم، لا يملكون أن يردوا عادية عن أعراضهم أو دمائهم أو أموالهم، بل لا يستطيع أحدهم أن يتحكم في لحيته فيطلقها لأنها تهمة إسلامية ظاهرة، بل لا يستطيع أن ينفرد في لباس زوجته فيطيله حسب الشرع، لأنها جريمة يؤخذ عليا بالنواصي والأقدام، ولا يستطيع أن يعلم القرآن لثلاثة من الشباب المسلم في بيت الله، لأنه تجمع غير مشروع في عرف الجاهلية، بل لا يستطيع في بعض البلدان المسماة الإسلامية أن يغطي شعر زوجته، ولا يستطيع أن يمنع رجال المخابرات أن يأخذوا بيد ابنته بعد وهن من الليل، تحت جنح الظلام الدامس إلى حيث يشاءون!! وهل يستطيع أن يرفض أمرا يصدر من الطاغوت يقدم فيه هذا الفرد قربانا رخيصا على مذبح شهوات هذا الطاغية؟!
أليست هذه الملايين تعيش ذليلة مهينة مستضعفة وتتوفاها الملائكة ظالمة لأنفسها؟ فماذا سيكون جوابها إذا سألتها الملائكة (فيم كنتم) ألا يقولون (كنا مستضعفين في الأرض).
إن الضعف ليس عذارا عند رب العالمين، بل هو جريمة يستحق صاحبها جهنم، وقد أعذر الله الطاعنين في السن والأطفال الصغار والنساء الذين لا يجدون حيلة للتخلص، ولا يعرفون الطريق إلى أرض العزة ولا يستطيعون الهجرة إلى دار الإسلام ولا الوصول إلى قاعدة الجهاد.
سأصرف وجهي عن بلاد غدا بها لساني معقولا وقلبي مقفلا
وأن صريح الحزم والرأي لامرئ إذا بلغته الشمس أن يتحولا
إن الجهاد والهجرة إلى الجهاد جزء أصيل لا يتجزء عن طبيعة هذا الدين، والدين الذي ليس فيه جهاد لا يستطيع أن يثبت فوق أي أرض ولا أن تستوي شجرته على سوقها، وأصالة الجهاد التي هي من صميم هذا الدين ولها وزنها في ميزان رب العالمين ليست ملابسة طارئة من ملابسات تلك الفترة التي تنزل فيها القرآن، وإنما هو ضرورة مصاحبة لهذه القافلة التي يوجهها هذا الدين.
يقول الأستاذ سيد قطب في الظلال (2-742) في تفسير هذه الآية: لو كان الجهاد ملابسة طارئة في حياة الأمة المسلمة ما استغرق كل هذه الفصول من صلب كتاب الله في مثل هذا الأسلوب! ولما استغرق كذلك كل هذه الفصول من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي مثل هذا الأسلوب.
لو كان الجهاد ملابسة طاردة ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الكلمة لكل مسلم إلى قيام الساعة من مات ولم يغزو ولم يحدث نفسه بغزو مات على شعبة من النفاق .(1) [رواه مسلم عن أبي هريرة].
إن الله سبحانه يعلم أن هذا أمرا تكرهه الملوك! ويعلم أن لا بد لأصحاب السلطان أن يقاوموه لأنه طريق غير طريقهم ومنهج غير منهجهم، ليس في ذلك الزمن فقط ولكن اليوم وغدا وفي كل أرض وفي كل جيل!.
وأن الله سبحانه يعلم أن الشر متبجح، ولا يمكن أن يكون منصفا ولا يمكن أن يدع الخير ينمو مهما يسلك هذا الخير من طرق سليمة موادعة، فإن مجرد نمو الخير يحمل الخطر على الشر ومجرد وجود الحق يحمل الخطر على الباطل، ولا بد أن يجنح الشر إلى العدوان ولا بد أن يدافع الباطل عن نفسه بمحاولة قتل الحق وخنقه بالقوة! هذه جبلة! وليست ملابسة وقتية، هذه فطرة! وليست حالة طارئة.
ومن ثم لا بد من الجهاد.. لا بد منه في كل صورة… ولا بد أن يبدأ في عالم الضمير ثم يظهر فيشمل عالم الحقيقة والواقع والشهود.. ولا بد من مواجهة الشر المسلح بالخير المسلح… ولا بد من لقاء الباطل المتترس بالعدد بالحق المتوشح بالعدة… وإلا كان الأمر انتحارا أو كان هزلا لا يليق بالمؤمنين.
أنا لا ألوم المستبد إذا تجبر أو تعدا فسبيله أن يستبد وشأننا أن نستعدا
4- الإستجابة للنداء الرباني:
قال تعالى: (انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذالكم خير لكم إن كنتم تعلمون) (التوبة: 41)
وقد أورد القرطبي في تفسيره (8-150) في تفسيرها عشرة أقوال خفافا وثقالا :
1- روي عن ابن عباس شبانا وكهولا .
2- روي عن ابن عباس وقتادة نشاطا وغير نشاطا .
3- الخفيف: الغني، والثقيل: الفقير، قاله مجاهد.
4- الخفيف: الشاب، والثقيل: الشيخ، قاله الحسن.
5- مشاغيل وغير مشاغيل، قاله زيد بن علي والحكم بن عتيبة.
6- الثقيل الذي له عيال، والخفيف الذي لا عيال له، قاله زيد بن أسلم.
7- الثقيل الذي له صنعة يكره أن يدعها، والخفيف الذي لا صنعة له، قاله ابن زيد.
8- الخفاف: الرجال، الثقال: الفرسان، قاله الأوزاعي.
9- الخفاف الذين يسبقون إلى الحرب كالطليعة وهو مقدمة الجيش بأسره.
10- الخفيف: الشجاع، الثقيل: الجبان، حكاها النقاش.
والصحيح في فهمنا الآية أن الناس أمروا جملة، أي انفروا خفت عليكم الحركة أو ثقلت… روي أن ابن أم مكتوم جاء إلى رسول الله ص وقال له: أعلي أن أغزو؟ فقال: نعم، حتى أنزل الله تعالى (ليس على الأعمى حرج).
وهذه الأقوال إنما هي على معنى المثال، في الثقل والخفة ولا يشك عاقل أن حالتنا التي نعيشها في أفغانستان وفي فلسطين، بل في معظم أرجاء العالم الإسلامي داخلة تحت نص هذه الآية، فقد اتفق المفسرون والمحدثون والفقهاء والأصوليون على أنه إذا دخل العدو أرضا إسلامية أو كانت في يوم من الأيام دارا للإسلام، فإنه يجب على أهل تلك البلدة أن يخرجوا لملاقاة العدو، فإن قعدوا أو قصروا أو تكاسلوا أو لم يكفوا توسع فرض العين على من يليهم، فإن قصروا أو قعدوا فعلى من يليهم، وثم وثم حتى يعم فرض العين الأرض كلها، ولا يسع (يمكن) أحدا تركه كالصلاة والصيام بحيث يخرج الولد دون إذن والده والمدين دون إذن دائنه والمرأة دون إذن زوجها والعبد دون إذن سيده، ويبقى فرض العين مستمرا حتى تطهر البلاد من رجس الكفار (ولكن خروج المرأة لا بد له من محرم).
ولم أجد (وبقدر اطلاعي القليل) كتابا في الفقه أو في التفسير أو في الحديث إلا ونص على هذه الحالة، ولم يقل أحد من السلف أن هذه الحالة فرض كفاية أو أنه يجب استئذان الوالدين، ولا يسقط الإثم عن رقاب المسلمين ما دامت أية بقعة في الأرض (كانت إسلامية) في يد الكفار ولا ينجو من الإثم إلا الذي يجاهد.
فكل من ترك الجهاد اليوم فهو تارك لفريضة كالمفطر في رمضان بدون عذر أو كالغني الذي يمنع زكاة ماله، بل تارك الجهاد أشد.
وكما يقول ابن تيمية: والعدو الصائل الذي يفسد الدين والدنيا ليس أوجب بعد الإيمان من دفعه.
والحق المبين الذي لا محيد عنه قول أبي طلحة عندما قرأ (إنفروا خفافا وثقالا ) قال: شبابا وكهولا ما سمع الله عذر أحد، ثم قال: أي بني جهزوني جهزوني، فقال بنوه: يرحمك الله لقد غزوت مع النبي ص حتى مات، ومع أبي بكر حتى مات ومع عمر حتى مات، فنحن نغزو عنك، فقال: لا… جهزوني، فغزا، فمات في البحر، فلم يجدوا له جزيرة يدفنوه فيها إلا بعد سبعة أيام، فدفنوه فيها ولم يتغير رضي الله عنه.
يقول القرطبي (7-151) في تفسيره: (إذا تعين الجهاد بغلبة العدو على قطر من الأقطار أو بحلوله بالعقر (أصل الدار) فإذا كان ذلك وجب على جميع أهل تلك الدار أن ينفروا ويخرجوا إليه خفافا وثقالا ، شبابا وشيوخا ، كل على قدر طاقته، من كان له أب بغير إذنه ومن لا أب له.
ولا يتخلف أحد يقدر على الخروج من مقاتل أو مكثر، فإن عجز أهل تلك البلدة حتى يعلموا أن فيهم طاقة على القيام بهم ومدافعتهم.
وكذلك كل من علم بضعفهم عن عدوهم وعلم أنه يدركهم ويمكن غياثهم لزمه أيضا الخروج إليهم.
فالمسلمون كلهم يد على من سواهم، حتى إذا قام بدفع العدو أهل الناحية التي نزل العدو عليها واحتلها سقط الفرض عن الآخرين.
ولو قارب العدو دار الإسلام ولم يدخلوها لزمهم أيضا الخروج إليه، حتى يظهر دين الله وتحمى البيضة وتحفظ الحوزة ويخزى العدو ولا خلاف في هذا).
وما أجمل أبيات النابغة الجعدي وهو يخاطب زوجته التي ترجوه أن يجلس عند عائلته:
باتت تذكرني بالله قاعدة والدمع يهطل من شأنيهما(1) [شأنيهما:طريقا الدمع، سبلا: غزيرا]. سبلا
يا بنت عمي كتاب الله أخرجني كرها وهل أمنعن الله ما فعلا
فإن رجعت فرب الخلق أرجعني وإن لحقت بربي فابتغي بدلا(2) [فابتغي بدلا: تزوجي غيري].
ما كنت أعرج أو أعمى فيعذرني أو ضارعا من ضنى لم يستطع حولا(3)[ضارعا من ضنى: ضغيفا من مرض].
5- اتباع للسلف الصالح:
فقد كان الجهاد دينا للسلف الصالح، وكان ص سيدا للمجاهدين وقائدا للغر الميامين، فكانوا إذا اشتد الوطيس يحتمون برسول الله ص فيكون أقربهم إلى العدو، وعدد مغازيه ص التي خرج بنفسه فيها سبع وعشرون، وقاتل في تسع منها بنفسه: بدر، وأحد، والمريسيع، والخندق، وقريظة، وخيبر، وفتح مكة، وحنين، والطائف وهذا على قول من قال: مكة فتحت عنوة، وكانت سراياه التي بعثها سبعا وأربعين، وقيل أنه قاتل بني النضير.(4) [نهاية المحتاج 8/16].
وهذا يعني أن رسول الله ص كان يخرج في غزوة أو يرسل سرية في كل شهرين أو أقل.
وسار الصحب الكرام على سنة النبي الكريم ص، فلقد كان القرآن الكريم يربي هذا الجيل تربية جهادية ويحميهم من أن ينغمسوا في الدنيا كما يحمي أحدنا لديغه من الماء، فلقد روى الحاكم في المستدرك (2-275) وصححه ووافقه الذهبي، عن أسلم أبو عمران قال: حمل رجل من المهاجرين -بالقسطنطينية- على صف العدو حتى خرقه، ومعنا أبو أيوب الأنصاري فقال ناس: ألقى بيده إلى التهلكة، فقال أبو أيوب: نحن أعلم بهذه الآية إنما نزلت فينا، صحبنا رسول الله ص وشهدنا معه المشاهد ونصرناه، فلما فشا الإسلام وظهر اجتمعنا معشر الأنصار تحببا ، فقلنا: قد أكرمنا الله بصحبة نبيه ص حتى فشا الإسلام وكثر أهله، وكنا قد أثرناه على الأهلين، والأموال والأولاد وقد وضعت الحرب أوزارها، فنرجع إلى أهلنا وأولادنا فنقيم فيها، فنزل فينا:
(وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة) (البقرة: 195)
فكانت التهلكة في الإقامة في الأهل والمال وترك الجهاد.
وقد روى عكرمة أن ضمرة بن العيص وكان من المستضعفين في مكة وكان مريضا ، فلما سمع ما أنزل الله في الهجرة قال: أخرجوني فهيء له فراش ثم وضع عليه وخرج فمات في الطريق بالتنعيم -على بعد (6 كم) من مكة(5) [القرطبي/249].
وأسند الطبري عمن رأى المقداد بن الأسود في حمص على تابوت صراف، وقد فضل على التابوت من سمنه وهو يتجهز للغزو فقيل: عذرك الله، فقال: أتت علينا سورة البحوث (إنفروا خفافا وثقالا ).
وقال الزهري: خرج سعيد بن المسيب إلى الغزو وقد ذهبت إحدى عينيه، فقيل له: إنك عليل، فقال: إستنفر الله الخفيف والثقيل، فإن لم يمكني الحرب كثرت السواد وحفظت المتاع.
وروي أن بعض الناس رأى في غزوات الشام رجلا قد سقط حاجباه على عينيه من الكبر، فقال له: يا عم إن الله قد أعذرك، فقال: يا ابن أخي قد أمرنا بالنفير خفافا وثقالا .(1) [القرطبي 18/151].
وهذا إبراهيم بن أدهم عندما أحس بالموت قال أوتروا لي قوسي، وتوفي وهو في كفه، ودفن في إحدى جزائر البحر في بلاد الروم.(2) [تاريخ دمشق لابن عساكر 2/1790].
وهذا عبد الله بن المبارك كان يقطع مسافة ألفين وستمائة كيلو مترا راجلا أو راكبا على دابته ليقاتل في سبيل الله في ثغور المسلمين.(3) [عبد الله بن المبارك/د. المحتسب].
وقال زهير بن قمير المروزي: أشتهي لحما من أربعين سنة ولا آكلها حتى أدخل الروم فآكله من مغانم الروم.(4)[ ترتيب المدارك للقاضي عياض3/249].
وهذا قاضي الكوفة عروة بن الجعد كان في بيته سبعون فرسا مربوطة للجهاد.(5) [تهذيب الأسماء واللغات 1/231].
وهذا محمد بن واسع كان من العباد المحدثين الغزاة المرابطين يقول عنه القائد قتيبة بن مسلم الباهلي: لإصبع محمد بن واسع تشير إلى السماء في المعركة أحب إلي من مائة ألف سيف شهير وشاب طرير -قوي(6) المشوق في الجهاد 66].
وهذا أحمد بن إسحاق السلمي يقول: أعلم يقينا أني قتلت بسيفي هذا ألف تركي، ولولا أن يكون بدعة لأمرت أن يدفن معي.(7) [تهذيب التهذيب لابن حجر 1/14].
وهذا أبو عبد الله بن قادوس لكثرة قتله من نصارى الأندلس كان النصراني إذا سقى فرسه فلم يقبل على الماء قال له: مالك أرأيت بن مالك أرأيت بن قادوس في الماء(8ý) [المشوق في الجهاد].
وهذا بدر بن عمار يقتل الأسد بسوطه فيمدحه المتنبي:
أمعف ر الليث الهزبر بسوطه لمن ادخرت الصارم المصقولا(9) [معفر: ممرغ بالتراب . الهزيز: الأسد، الصارم: السيف].
وهذا عمر المختار يقول عنه غراسياني (القائد الإيطالي): لقد خاض عمر المختار مع جنودنا (263) معركة خلال عشرين شهرا ، أما مجموع معاركه فقد بلغت ألف معركة!!.
وهذا الشيخ محمد فرغلي كان الإنجليز في الإسماعيلية يعلنون حالة الطوارئ في معسكراتهم إذا دخل الفرغلي المدينة، وقد دفع الإنجليز خمسة آلاف جنيه لمن يأتي برأسه حيا أو ميتا .
وهذا يوسف طلعت كان يسمى (جزار الإنجليز) لكثرة ما قتل منهم في قناة السويس، فأعدمهما عبد الناصر إرضاء لسادته الأمريكان!!.
حدثني محمد بانا -أحد أركان أحمد شاه مسعود:- أنه قد أحرق هو ومجموعته في ممر سالنج أربعمائة ناقلة، ويطلق عليه الروس (الجنرال) وقد غنم مائتي كلاكوف ومائتي كلاشنكوف.
وقد حدثني محمد بانا أنه أحرق ذات مرة مائة وخمسين آلية دفعة واحدة.
6- إقامة القاعدة الصلبة لدار الإسلام:
إن إقامة المجتمع المسلم فوق بقعة أرض ضرورية للمسلمين، ضرورة الماء والهواء، وهذه الدار لن تكون إلا بحركة إسلامية منظمة تلتزم الجهاد واقعا وشعارا وتتخذ القتال لحمة ودثارا .
وإن الحركة الإسلامية لن تستطيع إقامة المجتمع المسلم إلا من خلال جهاد شعبي عام، تكون الحركة الإسلامية قلبه النابض وعقله المفكر، وتكون بمثابة الصاعق الصغير الذي يفجر العبوة الناسفة الكبيرة، فالحركة الإسلامية تفجر طاقات الأمة الكامنة وينابيع الخير المخزونة في أعماقها.
فالصحابة رضوان الله عليهم كان عددهم قليلا جدا بالنسبة لمجموع عامة المسلمين الذين قوضوا عرش كسرى وثلوا مجد قيصر.
بل إن القبائل المرتدة عن الإسلام في أيام الصديق قد سيرهم عمر بن الخطاب -بعد أن أعلنوا توبتهم- إلى قتال الفرس، ولقد أصبح طلحة بن خويلد الأسدي -الذي ادعى النبوة من قبل- أحد أبطال القادسية البارزين، واختاره سعد بمهمة استكشاف أخبار الفرس فأبدى شجاعة فائقة.
أما الحفنة من الضباط التي يمكن أن يتوهم البعض أن بإمكانهم عمل مجتمع مسلم، فهذا ضرب من الخيال أو وهم يشبه المحال لا يعدوا أن يكون تكرارا لمأساة عبد الناصر مع الحركة الإسلامية مرة أخرى.
والحركة الشعبية الجهادية مع طول الطريق ومرارة المعاناة وضخامة التضحيات وفداحة الأرزاء، تصفى النفوس فتعلوا على واقع الأرض الهابط، وترتفع الإهتمامات عن الخصومات الصغيرة على دراهم، وعن الأغراض القريبة، وسفاسف المتاع وتزول الأحقاد وتصقل الأرواح، وتسير القافلة صعدا من السفح الهابط إلى القمة السامقة بعيدا عن نتن الطين وصراع الغابات.
وعلى طول طريق الجهاد تفرز القيادات، وتظهر الكفاءات من خلال العطاء والتضحية، ويبرز الرجال شجاعتهم وبذلهم.
ولا تحسبن المجد زقا وقينة فما المجد إلا الحرب والفتكة البكر
ومع ارتفاع الإهتمامات ترتفع النفوس عن الصغائر، وتصبح الأمور العظيمة غاية القلوب وأمل الشعوب.
إذا غامرت في شرف مروم فلا تقنع بما دون النجوم
فطعم الموت في أمر حقير كطعم الموت في أمر عظيم
يرى الجبناء أن الجبن عقل وتلك خديعة الطبع اللئيم
وطبيعة المجتمعات كالماء تماما ، ففي الماء الراكد تطفو على السطح الطحالب والأعفان، أما الماء المتحرك فلا يحمل العفن فوقه، والقيادات في المجتمعات الراكدة لا يمكن أن تكون على قدر المسؤولية، لأنها لا تبرز من خلال الحركة والتضحية والبذل والعطاء، فأبو بكر وعمر وعثمان وعلي ما برزوا إلا من خلال الأعمال الجليلة والتضحيات الباهظة، ولذا لم يكن أبو بكر بحاجة إلى دعاية إنتخابية عندما أجمعت الأمة على انتخابه، فما أن فاضت روح رسول الله ص إلى الرفيق الأعلى في الجنة تطلعت العيون إلى الساحة فلم تجد أفضل من أبي بكر رضي الله عنه.
والأمة التي تجاهد تبذل الثمن غاليا فتجني الثمرة الناضجة، ليس من السهل أن تفرط فيما جنته بالعرق والدم، وأما الذين يتربعون على صدور الناس من خلال البيان الأول في انقلاب عسكري صنع وراء الكواليس في سفارة من السفارات، يسهل عليهم التفريط بكل شيء.
ومن أخذ البلاد بغير حرب يهون عليه تسليم البلاد
والأمة الجهادية التي يقودها أفذاذ برزوا من خلال الحركة الجهادية الطويلة، ليس من السهل أن تفرط بقيادتها أو تخطط للإطاحة بها، وليس من اليسير على أعدائها أن يشككوها بمسيرة أبطالها، والحركة الجهادية الطويلة تشعر الأمة بأفرادها جميعا أنهم قد دفعوا في الثمن وشاركوا في التضحية من أجل قيام المجتمع الإسلامي، فيكونون حراسا أمناء لهذا المجتمع الوليد، الذي عانت الأمة جميعها من آلام مخاضه.
لا بد للمجتمع الإسلامي من ميلاد، ولا بد للميلاد من مخاض ولا بد للمخاض من آلام.
7- حماية المستضعفين في الأرض:
إن من بواعث الجهاد الإسلامي حماية المستضعفين في الأرض ورفع المظالم عنهم..
(وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها وجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا). (النساء: 75)
ومعنى الآية وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله وفي سبيل المستضعفين.
كيف القرار وكيف يهدأ مسلم والمسلمات مع العدو المعتدي
وقد اتفق الفقهاء على أن الجهاد يصبح فرض عين بالنفس والمال إذا سبيت امرأة مسلمة، وفي (البزازية) امرأة سبيت في المشرق وجب على أهل المغرب تخليصها.
فليتهم إذا لم يذودوا حمية عن الدين ضنوا غيرة بالمحارم
وإن زهدوا في الأجر إذ حمي الوغى فهل اأتوه رغبة في المغانم
كنت ذات مرة مع حكمتيار في لوجر (ولاية أفغانية) وضرب مركز الولاية ضربة موجعة، فضج أطفال الولاية ولهجت ألسنة نسائها بالدعاء لحكمتيار.
أتسبى المسلمات بكل ثغر وعيش المسلمين إذا يطيب
أما لله والإسلام حق يدافع عنه شبان وشيب
لقد جاء الإسلام لإقرار العدل في الأرض
(لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط) (الحديد: 25)
8- طمعا بالشهادة والمنازل العلى في الجنة:
جاء في الحديث الصحيح الذي رواه أحمد والترمذي عن المقدام بن معد يكرب مرفوعا : للشهيد عند الله سبع خصال، يغفر له في أول دفعة من دمه، ويرى مقعده من الجنة، ويحلى حلة الإيمان، ويزوج اثنتين وسبعين زوجة من الحور العين، ويجار من عذاب القبر، ويأمن من الفزع الأكبر، ويوضع على رأسه تاج الوقار الياقوتة منه خير من الدنيا وما فيها، ويشفع في سبعين إنسانا من أهل بيته .(1) [صحيح الجامع 5058].
وقد روى البخاري عن أبي هريرة قال: قال ص: إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض، فإذا سألتم الله فسألوه الفردوس .(2) [فتح الباري 6/9].
9- إن الجهاد حفظ لعزة الأمة ورفع الذل عنها:
ففي الحديث الصحيح الذي رواه أحمد عن ابن عمر مرفوعا : إذا ضن الناس بالدينار والدرهم وتبايعوا بالعينة واتبعوا أذناب البقر سلط الله عليهم ذلا لا يرفعه حتى يراجعوا دينهم .(3) [صحيح الجامع 688].
01- إن الجهاد حفظ لهيبة الأمة ورد لكيد أعدائها:
(فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك وحرض المؤمنين عسى الله أن يكف بأس الذي كفروا والله أشد بأسا وأشد تنكيلا)
(النساء: 84)
وفي الحديث الصحيح الذي رواه أحمد وأبو داوود عن ثوبان: يوشك أن تداعى عليكم الأمم من كل أفق كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، قيل يا رسول الله فمن قلة يومئذ؟ قال: لا ولكنكم غثاء كغثاء السيل، يجعل الوهن في قلوبكم وينزع الرعب من قلوب عدوكم، لحبكم الدنيا وكراهيتكم الموت .(4) [صحيح الجامع 8035].
11- في الجهاد صلاح الأرض وحمايتها من الفساد:
(ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض) (البقرة: 251)
21- في الجهاد حماية للشعائر الإسلامية:
(ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ) (الحج: 40)
31- وفي الجهاد حماية الأمة من العذاب ومن المسخ والإستبدال:
(إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم) (التوبة: 92)
41- وفي الجهاد غنى الأمة وزيادة ثرواتها:
(وجعل رزقي تحت ظل رمحي).(1) [حديث صحيح رواه أحمد عن ابن عمر صحيح الجامع 2828].
51- والجهاد ذروة سنام الإسلام:
(وذروة سنامه الجهاد) حديث صحيح عن معاذ وهو رهبانية هذه الأمة (وعليك بالجهاد فإنه رهبانية الإسلام).(2) [حديث حسن رواه أحمد في المسند 3/82 عن أبي سعيد الخدري].
61- الجهاد من أفضل العبادات وبه ينال المسلم أرفع الدرجات:
قال الفضل بن زياد: سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل وذكر أمر العدو، فجعل يبكي ويقول ما من أعمال البر أفضل منه.
وقال عنه غيره: ليس يعدل لقاء العدو شيء، ومباشرة القتال بنفسه أفضل الأعمال، والذين يقاتلون العدو هم الذين يدافعون عن الإسلام وعن حريمهم، فأي عمل أفضل منه؟ الناس آمنون وهم خائفون وقد بذلوا م ه ج أنفسهم.
ورد في البخاري (6-9) الحديث: إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض .
الفصل الثاني
وا إسلاماه
أيها المسلمون; السلام عليكم ورحمة الله وبركاته:
فلا يخفى عليكم التضحيات الباهظة التي فرضت على الشعب الأفغاني المسلم، فقد مضى حتى الآن تسع سنوات ونيف على انقلاب نور تراقي الشيوعي في نيسان سنة (1978م)، ومنذ ذلك الحين والمسلمون في أفغانستان يتحملون أقصى ما يمكن أن يتحمله بشر لحماية دينهم وأعراضهم وأطفالهم، ولم يبق بيت في أفغانستان إلا وتحول إلى مأتم وميتم.
وقد أعذر هؤلاء إلى الله، وأشهدوا الله من خلال الجماجم والأشلاء والأرواح والدماء أنه لم يبق في القوس منزع، وكادت سهام الكنانة تنفد، وخلال هذه الفترة الطويلة كان الأفغان يأملون من إخوانهم المسلمين أن ت ف د جموعهم، وأن تتحرك إخوة الإسلام في أعماقهم، ولكن لم ي لب المسلمون نداءهم حتى الآن، وكأن في آذانهم صمت دون أنات الثكالى، وصيحات العذارى وآهات الأيتام، وزفرات الشيوخ، واكتفى كثير من الطيبين بإرسال بعض فضلات موائدهم وفتات طعامهم!!.
ولكن الأمر أكبر من هذا، والخطر جلل، والإسلام والمسلمون في أفغانستان في كرب شديد وخطر مهدد أكيد.
قام هذا الجهاد المبارك على يد حفنة من الشباب تربوا على الإسلام، وعلى يد جماعة من العلماء نذروا أنفسهم لله.
ولكن هذا الجيل الأول معظمه سقط على طريق الشهادة، وتقدم الجيل الثاني الذي لم يحظ بقسط من التربية والتوجيه، ولم يلق يدا حانية توليه اهتماما بالتربية والتعليم.
ومثل هؤلاء بحاجة ماسة إلى من يعيش بينهم ليربطهم باللهلله، ثم بالأحكام الشرعية.
ونحن على قدر اطلاعنا القليل وعلمنا اليسير، نعتقد أن الجهاد في مثل هذه الحالة الراهنة في أفغانستان فرض عين بالنفس والمال، كما قرره فقهاء المذاهب الأربعة بلا استثناء، ومعهم جمهرة المفسرين والمحدثين الأصوليين.
يقول ابن تيمية في الفتاوى الكبرى (4-608): إذا دخل العدو بلاد الإسلام فلا ريب أنه يجب دفعه على الأقرب فالأقرب… إذ بلاد الإسلام كلها بمنزلة البلدة الواحدة، وأنه يجب النفير إليه بلا إذن والد ولا غريم، ونصوص أحمد صريحة بهذا.
ويقول في مجموع الفتاوى (82-358): فإذا أراد العدو الهجوم على المسلمين فإنه يصير دفعه واجبا على المقصودين كلهم وعلى غير المقصودين كما قال تعالى:
(وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر) (الأنفال: 72)
كما أمر النبي ص بنصر المسلم، وسواء كان الرجل من المرتزقة للقتال، أو لم يكن، وهذا يجب بحسب الإمكان على كل أحد بنفسه وماله مع القلة والكثرة والمشي والركوب، كما كان المسلمون لما قصدهم العدو عام الخندق لم يأذن الله في تركه لأحد.
ونصوص فقهاء المذاهب الأربعة صريحة قاطعة بهذا لا تحتمل تأويلا دون لبس ولا غموض.
يقول ابن عابدين الحنفي في حاشيته (3-238): وفرض عين إن هجم العدو على ثغر من ثغور الإسلام، فيصير فرض عين على من قرب منه، فأما من وراءه ببعد عن العدو فهو فرض كفاية إذا لم يحتج إليهم، فإن احتيج إليهم بأن عجز من كان قرب العدو عن المقاومة مع العدو أو لم يعجزوا عنها ولكنهم تكاسلوا ولم يجاهدوا، فإنه يفترض على من يليهم -فرض عين- كالصلاة والصوم، ولا يسعهم تركه، وث م وث م إلى أن يفترض على جميع أهل الإسلام شرقا وغربا على هذا التدريج.
وبمثل هذا النص الواضح الجلي أفتى الكاساني الحنفي في بدائع الصنائع (7-72)، وابن نجيم الحنفي في البحر الرائق (5-72)، وابن الهمام في فتح القدير (5-191).
وراجع إن شئت حاشية الدسوقي المالكي (2-174) ونهاية المحتاج للرملي الشافعي (8-58) والمغني لابن قدامة الحنبلي (8-345).
ولعل بعض الناس يجدون مبررا لأنفسهم بأن كثيرا من الأفغان ليسوا على المستوى الإسلامي المقبول من التربية، ويعذرون أنفسهم بالقعود بسبب بعض المخالفات.
ولكن الرد على هذا بأن الفقهاء نصوا على أنه يجب الجهاد ولو مع عسكر كثيري الفجور.
وهذا من أصول أهل السنة والجماعة (الغزو مع كل بر وفاجر)، فإن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر، وبأقوام لا خلاق لهم ، وهذه طريقة خيار هذه الأمة قديما وحديثا ، وهي واجبة على كل مكلف.
وعدم الغزو مع الأمراء (ولو كانوا فجارا ) أو مع عسكر كثيري الفجور هو مسلك الحرورية -من فئات الخوارج- وأمثالهم ممن يسلك مسلك الورع الفاسد الناشئ عن قلة العلم (مجموع الفتاوى لابن تيمية 28-506).
وبعض الناس يعذرون أنفسهم بأن مكانهم في بلدهم ضروري للتربية والتعليم، ونحن نورد لهم قول الزهري: خرج سعيد بن المسيب إلى الغزو وقد ذهبت إحدى عينيه فقيل له: إنك عليل، فقال استنفر الله الخفيف والثقيل، فإن لم يمكني الحرب كثرت السواد وحفظت المتاع.
فأي الناس منزلته وعمله يداني سيد التابعين ووارث علم النبوة عن طريق صهره والد زوجته -أبي هريرة- رضي الله عنه.
لقد بلغ السيل الزبى وجاوز الحزام الطبيين، واشتد الأمر على المسلمين فمتى النفير؟! وإلى متى القرار؟!.
فإن كان الفقهاء يفتون كما جاء في البزازية: امرأة سبيت في المشرق وجب على أهل المغرب تخليصها.
فماذا يفتي علماؤنا بالآلاف من العواتق تنتهك أعراضهن في خدورهن؟
وماذا يجيبون في النساء اللواتي يلقين بأنفسهن في نهر (كونر في لغمان) فرارا بأعراضهن من الإنتهاك على يد الجنود الحمر، لأن المرأة لا يجوز لها باتفاق العلماء أن تستسلم للأسر إذا خشيت على عرضها.
أوما تخشى أن تدور الدائرة عليك ويصل الأمر إلى عرضك؟ ما من امرئ يخذل امرءا مسلما في موطن ينتقص فيه من عرضه وينتهك فيه من حرمته إلا خذله الله تعالى في موطن يحب فيه نصرته، وما من أحد ينصر مسلما في موطن ينتقص فيه من عرضه وينتهك فيه من حرمته إلا نصره الله في موطن يحب فيه نصرته (1)[حديث حسن رواه أبو داود عن جابر/صحيح الجامع 5566]. فاتقوا الله في أعراضكم.
وقال حبان بن موسى: خرجنا مع ابن المبارك مرابطين إلى الشام، فلما نظر إلى ما فيه القوم من التعبد والغزو والسرايا كل يوم التفت إلي وقال: إنا لله وإنا إليه راجعون على أعمار أفنيناها وليال وأيام قطعناها في علم (الخلية والبرية) -كنايات الطلاق- وتركنا هاهنا أبواب الجنة مفتوحة!!
هذا ابن المبارك الذي كان يرابط شهرين أو أكثر في السنة، يدع تجارته ومجالس الحديث ويخرج للرباط، لأنه لم يرابط طيلة عمره وانشغل بالعلم عن الرباط، فماذا يقول الذين لم يطلقوا طلقة واحدة في سبيل الله؟!
إذا كان مرض الموت -الذي ألم برسول الله ص- لم يشغله عن تذكير الصحابة بإنفاذ بعث أسامة رضي الله عنه.
وعندما حاول أبو بكر الصديق أن ينفذ بعث أسامة حاول الصحابة أن يثنوه عن عزمه، فقال كلمته المشهورة: والذي لا إله غيره لو جرت الكلاب بأرجل أزواج رسول الله ص ما رددت جيشا وجهه رسول الله ص، ولا حللت لواء عقده رسول الله(2) [حياة الصحابة 1/440].
ويشاء الله أن تكون آخر وصايا صاحب رسول الله ص في حث الناس على الجهاد إذ يستدعي أبو بكر عمر في آخر ساعات حياته قائلا : إسمع يا عمر! أقول لك ثم إعمل به، إني لأرجو أن أموت من يومي هذا -وذلك يوم الإثنين- فإن أنا مت فلا تمسين حتى تندب الناس مع المثنى، وإن تأخرت إلى الليل فلا تصبحن حتى تندب الناس مع المثنى، لا يشغلنكم مصيبة -وإن عظمت- عن أمر دينكم، ووصية ربكم، وقد رأيتني متوفي رسول الله ص وما صنعت، ولم يصب الخلق بمثله، وباللهلله لو أني تأخرت عن أمر رسوله لخذلنا الله ولعاقبنا، فأضرمت المدينة نارا .(3) [حياة الصحابة 1/141].
فلقد أدرك أبو بكر -خير الناس بعد النبي ص- أن التأخر في تنفيذ أمر الله وأمر رسوله ص بالنفير إلى الجهاد عاقبته الخذلان ومآله الخسران.
هذا كتاب الله يحكم بيننا، وهذه سنة رسوله ص ناطقة شاهدة علينا، وهذا هدي أصحابه في فهمهم لأهمية الجهاد في هذا الدين، فهل لنا من تعقيب على هذه النصوص المتواترة المتوافرة الناصعة الجلية القاطعة؟ لقد وصل اللص إلى داخل خدور المؤمنات، فهل ندعه؟!! ينتهك الأعراض ويمسخ القيم ويجتث المبادئ؟!
رب وامعتصماه انطلقت ملء أفواه الصبايا اليتم
لامست أسماعهم لكنها لم تلامس نخوة المعتصم
لقد أخذ الروس مائتين وخمسة آلاف من أطفال المسلمين الأفغان لتربيتهم على العقيدة الشيوعية ولغرس الإلحاد في أعماقهم، وقرر الأمريكان فتح ستمائة مدرسة، وتعهد مائة وخمسة آلاف من أطفال الأفغان في الداخل والخارج بالتربية والتعليم.
فأين دعاة الإسلام؟ وأين المربون المسلمون؟ وماذا أعدو لإنقاذ الجيل المسلم ومن أجل رعاية هذا الجيل المبارك العظيم.
لقد نص الفقهاء على أن بلاد المسلمين كالبلد الواحد، فأي بقعة من بقاع المسلمين تعرضت لخطر وجب أن يتداعى جسد الأمة الإسلامية كلها لحماية هذا الشلو الذي تعرض لغزو الجراثيم.
ماذا على العلماء لو حرضوا الشباب على الجهاد؟ سيما والتحريض فرض.
(وحرض المؤمنين) (النساء: 84)
ماذا على الدعاة لو خصصوا سنة من حياتهم للعيش بين المجاهدين يوجهون ويرشدون؟
ماذا على طلاب الجامعة لو أج لوا سنة من دراستهم لينالوا شرف الجهاد وليسهموا بأنفسهم في إقامة دين الله في الأرض؟
(رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم وأولئك لهم الخيرات وأولئك هم المفلحون) (التوبة: 87-88)
ماذا على الأئمة لو أخلصوا النصح لمن يستنصحهم بالخروج في سبيل الله بالدم والروح؟
إلى متى ي ث ب ط الشباب المؤمن وي ع و ق عن الجهاد؟ الفتية الذين تضطرم أفئدتهم نارا وتتفجر حماسا وتلتهب غيرة لتسقي تربة المسلمين بدمهم الطاهر.
إن الذي ينهى شابا عن الجهاد لا يفرق عن الذي ينهاه عن الصلاة والصوم.
أما يخشى الذي ينهى عن الجهاد أن يدخل -ولو بطريقة غير مباشرة- تحت المعنى العام للآية الكريمة في قوله تعالى:
(قد يعلم الله المعوقين منكم والقائلين لإخوانهم هلم إلينا ولا يأتون البأس إلا قليلا، أشحة عليكم فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد أشحة على الخير أولئك لم يؤمنوا فأحبط الله أعمالهم وكان ذلك على الله يسيرا) (الأحزاب: 18-19)
ماذا على الأمهات لو قدمت الواحدة منهن أحد أبنائها في سبيل الله يكون عزا لها في الدنيا وذخرا لها في الآخرة بالشفاعة؟
ماذا على الآباء لو دفعوا بأحد أبنائهم ليشب في مصانع الأبطال وميادين الرجال وساحات النزال؟ وليهب أحدهم أن الله خلقه عقيما ، فمن شكر النعمة أن يؤدي زكاة أولاده شكرا لربه.
أنفس هو خالقها، وأموال هو رازقها، فلم البخل على رب العالمين؟ البخل على المالك بما يملك، مع العقيدة الراسخة بأنه (لن تموت نفس حتى تستكمل أجلها ورزقها).
ماذا على المسلمين لو سطروا في صحائف أعمالهم وديوان حسناتهم أياما من الرباط، وساعات من القتال؟
وقد ثبت في الحديث الصحيح: رباط يوم في سبيل الله خير من صيام شهر وقيامه ، وفي الحديث الحسن: رباط يوم في سبيل الله خير من ألف يوم فيما سواه من المنازل يقام ليلها ويصام نهارها ، وفي الحديث الصحيح الذي رواه أحمد والترمذي في صحيح الجامع (4503): قيام ساعة في الصف للقتال في سبيل الله خير من قيام ستين سنة .
فيا أخوة الإسلام أقبلوا لحماية دينكم ونصرة ربكم وإعلاء سنة نبيكم.
أيها الأخ الحبيب: إمتشق حسامك وأعل صهوة جوادك وامسح العار عن أمتك، إن لم تقم بالعبء أنت فمن يقوم به إذن؟
أيها الأخ الكريم:
طال المنام على الهوان فأين زمجرة الأسود
واستنسرت فئة البغاث ونحن في ذل العبيد
ذل العبيد من الخنوع وليس من زرد الحديد
فيا خيل الله اركبي!!!
أيها الأخ العزيز: (لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب) (يوسف: 111)
فقصة بخارى الدامية، ورواية فلسطين الجريح، وعدن المحترقة، والأوجادين الأسيرة، وأحاديث الأندلس الأسيفة، وأرتيريا الأليمة، وبلغاريا المكلومة، والسودان مع جرنك المحزنة، ولبنان الممزقة أشلاؤها، والصومال وبورما وتشاد وقفقاسيا بجراحاتها العميقة، وأوغندا وزنجبار وأندونيسيا ونيجيريا…… ذات الملاحم والمآسي خير عبرة لنا، فهل نعتبر فيما مضى قبل فوات الأوان؟ أم تجري علينا السنن ونحن نتجرع الهوان ونندثر كما اندثروا ونضيع كما ضاعوا؟ ونحن نأمل من الله أن يندحر الروس في أفغانستان، ويرتدوا على أعقابهم خائبين، وإن كانت الأخرى، فليت شعري أي داهية تحل بالمسلمين؟
فقد روى أبو داوود بإسناد قوي عن أبي أمامة مرفوعا : من لم يغزوا أو يجهز غازيا ولم يخلف غازيا في أهله بخير أصابه الله بقارعة قبل يوم القيامة
(إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد) (ق: 54)
ألا هل بلغت؟ اللهم فاشهد، ألا هل بلغت؟ اللهم فاشهد، ألا هل بلغت؟ اللهم فاشهد.
خاتمة
1- إذا دخل العدو أرض المسلمين يصبح الجهاد فرض عين عند جميع الفقهاء والمفسرين والمحدثين.
2- إذا أصبح الجهاد فرض عين فلا فرق بينه وبين الصلاة والصوم عند الأئمة الثلاثة، أما الحنبلية فيقدمون الصلاة.
جاء في بلغة السالك لأقرب المسالك في مذهب الإمام مالك: الجهاد في سبيل الله لإعلاء كلمة الله تعالى كل سنة فرض كفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين -ويتعين أي يصير فرض عين كالصلاة والصوم- بتعيين الإمام وبهجوم العدو على محلة قوم.
وجاء في مجمع الأنهر في المذهب الحنفي: فإذا لم تقع الكفاية إلا بجميع الناس فحينئذ صار فرض عين كالصلاة.
وجاء في حاشية ابن عابدين الحنفي (2-238): وفرض عين إن هجم العدو على ثغر من ثغور الإسلام، فيصير فرض عين كالصلاة والصوم ولا يسعهم تركه.
3- إذا أصبح الجهاد فرض عين فلا إذن للوالدين كما لا يستأذن الوالدان في أداء فريضة الصبح أو صيام رمضان.
4- لا فرق بين تارك الجهاد بدون عذر إذا تعين (صار فرض عين) وبين مفطر رمضان بدون عذر.
5- لا يغني دفع المال عن الجهاد بالنفس مهما كان المبلغ الذي دفع، ولا تسقط فريضة الجهاد اللازمة في عنقه، فكما أنه لا يجوز أن يدفع مبلغ من المال لفقير حتى يصوم عنه أو يصلي فكذلك الجهاد بالنفس.
6- الجهاد فريضة العمر كالصلاة والصوم، فكما أنه لا يجوز أن يصوم عاما ويفطر عاما أو يصلي يوما ويترك آخر، فكذلك الجهاد لا يجوز أن يجاهد سنة ويترك سنوات قدر طاقته.
7- إن الجهاد الآن فرض عين بالنفس والمال في كل مكان استولى عليه الكفار، ويبقى فرض العين مستمرا حتى تتحرر كل بقعة في الأرض كانت في يوم من الأيام إسلامية.
8- إن كلمة الجهاد إذا أطلقت إنما تعني القتال بالسلاح كما قال ابن رشد وعليه اتفق الأئمة الأربعة.
9-إن المتبادر من كلمة (في سبيل الله) هو الجهاد كما قال ابن حجو في الفتح (6-22).
10- إن قولهم رجعنا من الجهاد الأصغر -القتال- إلى الجهاد الأكبر -جهاد النفس- الذي يرددونه على أساس أنه حديث، هو حديث باطل موضوع لا أصل له، وإنما هو من قول إبراهيم بن أبي عبلة أحد التابعين، وهو مخالف للنصوص والواقع.
11- إن الجهاد ذروة سنام الإسلام وتسبقه مراحل، فقبله الهجرة ثم الإعداد (التدريب) ثم الرباط ثم القتال، والهجرة ملازمة للجهاد، ففي الحديث الصحيح رواه أحمد عن جنادة مرفوع: أن الهجرة لا تنقطع ما دام الجهاد .(1) [صحيح الجامع/1987].
وأما الرباط وهو السكن على حدود العدو لحماية المسلمين فهو ضرورة من ضرورات القتال، لأن المعارك ليست كل يوم، فقد يرابط الإنسان فترة طويلة ويدخل معركة أو معركتين في هذه الفترة.
12- إن الجهاد اليوم فرض عين بالنفس والمال على كل مسلم، وتبقى الأمة الإسلامية آثمة حتى تتحرر آخر بقعة إسلامية من يد الكفر، ولا ينجو من الإثم إلا المجاهدون.
13- إن الجهاد في زمان رسول الله ص كان أنواعا ، فقد كانت غزوة بدر مندوبة -مستحبة- وكانت غزوة الخندق وتبوك فرض عين على كل مسلم، إستنفر الأمة، وأما الخندق فلأن الكفار غزو المدينة أرض الإسلام، وأما غزوة خيبر (7هـ) فكانت فرض كفاية ولم يأذن رسول الله ص بحضورها إلا لمن شهد الحديبية (6هـ).
14- أما الجهاد في أيام الصحابة والتابعين فمعظم أحواله فرض كفاية، لأنه كان فتوحات جديدة.
15- أما الجهاد بالنفس اليوم فكله فرض عين.
16- لم يعذر الله عزوجل أحدا بترك الجهاد إلا المريض والأعرج والأعمى، والطفل الذي لم يبلغ الحنث، والمرأة التي لا تعرف طريق الجهاد والهجرة، والطاعن في السن، وحتى المريض مرضا غير شديد والأعرج، أو الأعمى إذا استطاعوا أن يصلوا معسكرات التدريب لينضموا للمجاهدين ويعلموهم القرآن ويحدثوهم ويشجعوهم فالأولى أن يأتوا كما فعل عبد الله بن أم مكتوم في أحد وفي القادسية.
وغير هؤلاء ليس لهم عذر عند الله، سواء كان موظفا أو صاحب صنعة أو من أرباب الأعمال أو تاجرا كبيرا ، فهؤلاء ليسوا معذورين بترك الجهاد بأنفسهم وأن يدفعوا أموالهم.
17- إن الجهاد عبادة جماعية وكل جماعة لا بد لها من أمير وطاعة الأمير في الجهاد من الضرورات، فلا بد من تعويد النفس على التزام طاعة الأمير (عليك بالسمع والطاعة في عسرك ويسرك ومنشطك ومكرهك وأثرة عليك).(1) [رواه مسلم عن أبي هريرة].
ملاحظات للقادمين للجهاد
1- إن جهاد الشعوب عامة غير جهاد الدعوات الإسلامية… فأبناء الدعوات دائما أقلية، وهم في العادة صفوة الأمة، ولكنهم بمفردهم لا يستطيعون مواصلة جهاد طويل ولا يقدرون على مواجهة دول، فلا بد أن تشاركهم الأمة، والشعوب تجد فيها كثيرا من العيوب، فلا يظنن أحد أن شعبا كله من الأخيار يتسم بطهر الملائكة الأبرار.
2- إن الشعب الأفغاني كبقية الشعوب فيه جهل وفيه عيوب، فلا يظنن أحد أنه سيجد شعبا كاملا ليس فيه نقائض، ولكن الفرق بين الشعب الأفغاني وبين بقية الشعوب أنه رفض أن يعطي الدنية في دينه، واشترى عزته ببحر من الدماء وجبال من الجماجم والأشلاء، أما بقية الشعوب فقد خضعت من أول يوم للإستعمار والكفر.
3- إن الشعب الأفغاني أمي تربى على المذهب الحنفي ولم يعايش المذهب الحنفي في أفغانستان مذهب آخر، ولذا فكثير منهم يظن أن كل من يخالف المذهب الحنفي ليس من الإسلام، وعدم وجود مذاهب أخرى في أفغانستان أظهر التعصب للمذهب الحنفي في قلوب الأفغان، فعلى كل من أراد الجهاد مع الشعب الأفغاني أن يحترم المذهب الحنفي.
4- إن الشعب الأفغاني شعب وفي عنده مروءة ورجولة وإباء ولا يعرف المراوغة ولا المداهنة، فإذا أحب شخصا بذل لأجله دمه ونفسه، وإذا بغض لا يقوم لبغضه شيء.
وترك بعض هيئات الصلاة في بداية الإختلاط بهم، تعطيك فرصة غالية حتى تصل إلى قلوبهم فتوجههم وتربيهم، وتصلح في أمر دينهم ودنياهم، وقد أفتى أحمد بن حنبل ومالك وابن تيمية بمثل هذا.
5- لا بد أن تعلم أن طريق الجهاد شاق وطويل وليس من السهل على الكثيرين أن يواصلوا المسير وإن تحمسوا كثيرا في البداية، وإن الأشواق مع العاطفة الفياضة للجهاد لا بد أن يصاحبها توطين النفس على احتمال الشدائد وتربيتها على المشاق والمصاعب، فكثير من الشباب جاءوا متحمسين ثم خبا حماسهم تدريجيا ، ثم أصبح يناقش في حكم الجهاد أصلا !!.
6- تكفل الله بعون المجاهدين، فمن خرج في سبيله فإن الله يأخذ بيده ويقوي عزيمتهم، ويربط على قلوبهم، ويثبت أقدامهم ثلاث حق على الله عونهم: المجاهد في سبيل الله، والمكاتب الذي يريد الأداء، والناكح الذي يريد العفاف .(2) [رواه أحمد والترمذي والنسائي وصححه الحاكم ووافقه الذهبي].
7- من أراد القدوم إلى أفغانستان فعليه أن يتصل بأرقام الهواتف التالية في بيشاور: (43203،43708، 42397،) فعندما تصل إلى بيشاور فاتصل بأحد هذه الأرقام واطلب منه أن يأتيك إلى المكان الذي أنت فيه، وعندئذ يأتيك إلى مكانك شخص يتكفل بخدمتك.
أما عنوان المراسلة فهو:
PESHAWAR UNIVERSITY
(977) P.O.BOX
PESHAWAR-PAKISTAN
سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.
الفصل الثالث
إيضاحات حول حكم الجهاد اليوم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين; أما بعد:
1- فقد تكلمنا طويلا عن حكم الجهاد اليوم في أفغانستان وفلسطين، وفي كل ما شابهها من أراضي المسلمين المغتصبة، وأكدنا ما قرره السلف والخلف من محدثين ومفسرين وفقهاء وأصوليين أنه إذا اعتدي على شبر من أراضي المسلمين أصبح الجهاد فرض عين على أهل تلك البقعة، تخرج المرأة دون إذن زوجها -بمحرم- والمدين دون إذن دائنه والولد دون إذن والده، فإن لم يكف أهل تلك البقعة أو قصروا أو قعدوا توسع فرض العين على من يليهم، وثم وثم إلى أن يعم فرض العين الأرض كلها فرضا لا يسعهم تركه كالصلاة والصوم وغيرها .
2- إن فريضة الجهاد اليوم تبقى عينية حتى تتحرر آخر بقعة إسلامية كانت بيد المسلمين واستولى عليها الكفار.
3- بعض العلماء يرون أن الجهاد الآن في أفغانستان وفلسطين فرض كفاية، ونحن معهم أن الجهاد كان بالنسبة للعرب في أفغانستان فرض كفاية، ولكن الجهاد بحاجة إلى رجال ولم يقم أهل أفغانستان بفرض الكفاية -وهو إخراج الكفار من أفغانستان- وهنا ينقلب فرض الكفاية ويصبح فرض عين، ويبقى فرض عين في أفغانستان حتى يتجمع عدد من المجاهدين يكفون لطرد الشيوعيين، وهذا يرجع الحكم من فرض عين إلى فرض كفاية.
4- ليس لأحد إذن أحد في فروض الأعيان لأن القاعدة لا استئذان في فروض الأعيان .
5- إن الذي يصد عن الجهاد كالذي يصد عن الصيام، ومن نصح مسلما قادرا على عدم الذهاب للجهاد فهو في حكمه كمن نصحه بالإفطار في رمضان وهو صحيح مقيم.
6- الأولى هجران الذين يثبطون عن الجهاد وعدم الدخول معهم في نقاش يؤدي إلى جدل يقسي القلوب.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (51-313): وجماع الهجرة هي هجرة السيئات وأهلها، وكذلك هجران الدعاة إلى البدع، وهجران الفساق وهجران من يخالط هؤلاء أو يعاونهم، وكذلك من يترك الجهاد الذي لا مصلحة لهم بدونه، فإنه يعاقب بهجرهم له لما لم يعاونهم على البر والتقوى ، فالزناة واللوطية ومن ترك الجهاد وأهل البدع وشربة الخمر فهؤلاء كلهم، ومن خالطهم مضرة على دين الإسلام وليس فيهم معاونة على بر ولا تقوى، فمن لم يهجرهم كان تاركا للمأمور فاعلا للمحظور.
ملاحظات هامة حول تطبيق الحكم:
1- إننا عندما ندعو الناس للجهاد ونبين حكمه لا يعني أننا متكلفون بهم وبتذاكرهم وكفالة أسرهم، إذ أن مهمة العلماء بيان الحكم الشرعي وليس عليهم أن يحملوا الناس إلى الجهاد ويستدينوا من أموال الناس لكفالة أسر المجاهدين، فإذا بين ابن تيمية أو العز بن عبد السلام حكم قتال التتار فلا يعني هذا أنه يجب عليه تجهيز الجيش.
2- إن تنفيذ الفرائض وأدائها مبني على الإستطاعة، فالحج فريضة على المستطيع..
(ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا) (آل عمران: 97)
وكذلك الجهاد أداؤه حسب الإستطاعة، ففي الكتاب العزيز:
(ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله ما على المحسنين من سبيل والله غفور رحيم، ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون) (التوبة: 91-92)
قال ابن العربي (2-995): هذه الآية الثانية أقوى دليل على قبول عذر المعتذر بالحاجة والفقر عن التخلف في الجهاد إذا ظهر من حاله صدق الرغبة مع دعوى العجزة.
وقال القرطبي (8-226): الآية أصل في سقوط التكليف عن العاجز، فكل من عجز عن شيء سقط عنه، فتارة إلى بدل هو فعل، وتارة إلى بدل هو عزم، ولا فرق بين العجز من جهة القوة أو العجز من جهة المال.
ويفسر هذه الآية قوله تعالى:
(لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) (البقرة: 286)
وفي صحيح مسلم: إن بالمدينة لرجالا ما سرتم مسيرا ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم حبسهم المرض وفي رواية (حبسهم العذر .
قال القرطبي والجمهور من العلماء: على أن من لا يجد ما ينفقه في غزوة أنه لا يجب عليه.
يستدل الطبري (10-112): ليس على أهل الزمانة -المرض المزمن- وأهل العجز عن السفر والغزو ولا على المرضى ولا على من لا يجد نفقة يتبلغ فيها إلى مغزاه حرج -وهو الإثم-.
ويقول ابن تيمية (15-313): وما جاءت به الشريعة من المأمورات والعقوبات والكفارات وغير ذلك فإنه يفعل منه بقدر الإستطاعة.
وبناء على ما تقدم من نصوص العلماء:
1- فإن إثم القعود عن الجهاد ساقط عن أصحاب الأعذار ومن أصحاب الأعذار:
أ- من كان له زوجة وأولاد وليس لهم معيل بالنفقة غيره، أو ليس لهم من يقوم على خدمتهم وكفالتهم غيره، فإذا استطاع أن يدبر لهم نفقة أثناء غيابه فإنه آثم بالقعود، وعلى كل مسلم أن يقلل من نفقته ويوفر من راتبه حتى يتمكن من النفير.
ب- من لم يستطع أن يتحصل على تأشيرة قدوم إلى باكستان بعد محاولات كثيرة.
ج من منعته حكومته بأخذ الجواز أو منعته من الخروج من المطار.
د- من له والدان وليس لهما معيل يقوم عليهما بالنفقة أو الخدمة غيره.
حكم التخوف من سؤال أجهزة الأمن إذا رجع المجاهد من الجهاد إلى مسقط رأسه:
إن هذا الأمر ليس عذرا أبدا لأنه ظن وشك، واليقين لا يزول بالشك، فالجهاد يقيني والخوف من سؤال المخابرات شك، وكذلك لو تيقن أن المخابرات تسأله فهذا ليس عذرا يرفع به إثم القعود عن الجهاد، لأن العذر بالإكراه المعتبر في الشريعة الذي يسقط به إثم ترك الفرائض هو (الإكراه الملجئ الذي به فوات النفس أو العضو) أي التعذيب فيه موت أو قطع عضو، وكذلك التخوف من أجهزة الأمن في البلدان التي يحمل جوازها -ولو تيقن أنه إذا رجع وأمسكت به قتلته أو قطعت عضوا من أعضائه- فهذا ليس عذارا مقبولا عند الله لأنه في هذه الحالة يجب أن يترك بلده ويعيش في أرض الجهاد:
(إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا، إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا، فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفوا غفورا) (النساء: 97-99)
حكم جهاد النساء العربيات في أفغانستان:
النساء العربيات لا يجوز لهن أن يأتين بدون محرم وعملهن مختص بالتعليم أو التمريض أو إغاثة المهاجرين، وأما القتال فلا تستطيع العربيات القتال، لأن المرأة الأفغانية حتى الآن لم تقاتل.
حكم الذي به عاهة تمنعه عن القتال ولكن لا تمنعه من العمل في مجالات أخرى كالأعرج:
إن فرضية العين لا تسقط عن الأعرج ولا عن المريض مرضا غير مقعد، لأن بإمكانهم أن يعملوا في مجالات الصحة والتعليم وهو ميدان واسع، والمجاهدون الآن حاجتهم إلى الدعاة أشد من حاجتهم إلى الطعام والسلاح والدواء.
قال ابن الهمام في فتح القدير (5-441): وأما الذي يقدر على الخروج دون الدفع -القتال- ينبغي -يجب- أن يخرج لتكثير السواد فإن فيه إرهابا .
فإذا كان الخروج لتكثير العدد واجب، فكيف بالخروج لتعليم المجاهدين أحكام دينهم؟ إن هذا أشد وجوبا وأعظم فرضية.
نداء إلى ذوي الأسر:
وفي الختام نقول لأصحاب الأسر: لا يجوز أن يتركوا أسرهم وينفروا للجهاد بدون تأمين نفقتهم وبدون تأمين من يقوم على خدمتهم.
فمن أراد الخروج الآن من أرباب الأسر ومعه أسرته، فنحن لا نستطيع كفالته، فعليه أن يبحث مع المركز الإسلامي القريب منه أو مع بعض الأخيار حتى يؤمنوا له نفقة عياله، فعلى الفقراء من أرباب الأسر أن يبحثوا جادين عمن ينفق على أهاليهم أثناء غيابهم ويسعوا سعيا حثيثا لتدبير نفقتهم ثم ينفروا للجهاد.